المقياسُ بين الحكمِ الصَّحيحِ والجائرِ

الله سبحانه وتعالى حَبَانا قُدرةَ النطقِ والكلامِ وبالتالي به نَحْكم على الأشخاص سلباً أوإيجاباً، فنصِف هذا بأنّه صادق وهذا بأنّه كاذب ، وعلّاناً بأنه مسلم وفلاناً بأنه كافر … وهلّم جَرّا .. ، وأغلب الناس – إلّا مَن رحم ربك – يطلقون ألسُنتَهم ويحكمون على الناس جُزافاً، من غير رويّة، ولكنهم يتحمّلون تَبعات أحكامهم يوم القيامة ، فإما أن تكون لهم أو تكون عليهم .. كما يقول المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم(.. وإن أحدكم ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما يظن أن تبلغ ما بلغت فيكتب الله عليه بها سخطه إلى يوم يلقاه ..) إذن ما المقياس بين الحكم الصحيح الذي لا يتحمل الإنسان تبعاته يوم العرض على رب العالمين ، وبين الحكم الجائر الذي يبؤء صاحبه بالإثم ويتحمّل أثره يوم الدين ؟ وما الفرق بين الحكم الجائز وغير الجائز؟..

وجوابا موجزا عن هذا التساؤل المنطقي المهم أقول:

أوّلاً: كلٌّ حكم يُصدره الإنسان قولاً أو كتابةً يجب أن يكون مبنيا على علم، ومعنى ذلك يجب عليك قبل أن تقول على شخص أو تقول له – مثلا – أن يكون لديك دليل قاطع يشهد لك ما تصدره من حكم سلبا أو إيجابا وإلاّ فقد أصدرت حكما مبنيا على الجهل فتكون من الظالمين. وطرق الوصول إلى علم الأشياء، وإدراك الحقائق على ما هي عليها معروفة عند المؤهلين في هذا المضمار.

وهذا الميزان – أعني ميزان العلم عند الحكم على الأشياء – له من الأدلّة في الكتاب وفي السنة ما لا يمكن حصره في مقالة مثل هذه، ولكن من باب: الإشارة تكفي اللّبيب أذكر نتفا من الأدلة.

1- يقول تعالى مخاطبا نبيّه داود عليه السلام الذي اشتهر بحكمه الصائب في القضايا: ( فأحكم بين الناس بالحق ) أي متستخدما في حكمك العلم إذ لا حق بدون إدراك المحكوم عليه على ما هو عليه.

2- ذكر الرب سبحانه وتعالى في القرآن أن مصدر انحراف المعتقدين بالعقائد الفاسدة هو الاعتماد على الظنون بدل العلم واليقين فقال جلّ شأنه (ما أنزل الله بها مِن سُلْطانٍ إن يتَّبِعون إلاّ الظنّ) السلطان هي الحجة المقنعة والعلم المفحم، والظن هو الجهل والتّخمين.

3- عاتب الرب سبحانه وتعالى نوحا عليه السلام – تربية لنا – بأنه بنى حكمه على أهلية إبنه على الظن وعدم اليقين فقال جل شأنه ( يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسألني ما ليس لك به علم..) وذلك بعد قوله ( رب إنَّ ابني من أهلي وإن وعدك الحق..).

4- ولامَ الربّ سبحانه وتعالى داودَ عليه السلام بأنه استعجل الحكم – تعاطفا مع المظلوم – قبل بذل جهده لوصول العلم فقال جلّ جلاله ( وظنّ داود أنما قتنّاه فاستغفر ربّه..) وذلك بعد قوله عليه السلام ( لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نِعاجه وإن كثييرا من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض …). أصدر عليه السلام حكمه في القضية قبل الاستماع من الجانب الآخر الذي هو سبيل إدراك الحق والعلم، و الحكم على الشيء فرعٌ عن تصورحقيقته تصورا صحيحا من جهة الدليل ومن ناحية الواقع.

٥- أمر الرب سبحانه وتعالى المؤمنين بثبت الأقوال والأخبار التي تصل إلي أسماعهم كي لا يتورطوا بنتيجة تصديقهم كل ناعق، فقال سبحانه( ياءيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبيّنوا أن تصيبوا قوما بجهالة ..)

٦- ذكر النبي- صلى الله عيه وآله وصحبه أجمعين- أنه في آخر الزمان يطلق الناس عنان ألسنتهم بدون إيقان ولا إتقان ، وأن الرويبضة تتحدث بلا ميزان، وأن الناس يتخذون رؤوسًا جهَّالا- عن العلم والحق – فيَضلون ويُضلون غيرَهم.

وعليه قد خسر قوم يخوضون في أعراض الناس بدون تحفظ ولا تروٍّ وليس عندهم إيقان ولا إتقان. لقد رأيت منذ أمس عجباً، شاباً صغيرًا لم يتعلم أبجديات العلوم، وليس بإمكانه قرآة كلمة عربية مستقيمة مع هذا يكفّر فطاحل العلماء وأساطين الفقهاء وأوعية العلوم كإبن عثيمين وغيره..

فهؤلاء الأحداث عندهم من العواطف والحماس ما أفقدهم توازنهم لأنهم عروا عن العلم الصحيح الذي يقوّمُ عواطفهم ويصّوب حماسهم.

وليُعلم أن صدق النيّة وحدها لا تنففع ولا يبرّء ساحة الشخص إذا عرى عن العلم المؤهل للحكم على الأشياء ،وتجرّأ على الخوض في مسائل لو حدثت في زمن عمر لجمع لها أصحاب بدر ومن حضر منهم في بيعة الرضون.والأمر يزداد خطورة إذا كان الحكم يتعلق بكبار أهل العلم وقادة الأمّة لأنه يترتب باسقاط الرموز سقوط الأمّة.

ومن أمثلة هذا ذالك الشاب الذي لم يشبَّ عن الطوق، وأنه بمجرد عواطفه الهوجاء حكم على مفسر زمانه وشيخ الخاصة والعامّة والأديب الألمعي الشيخ عمر الفاروق- نوَّر الله ضريحه – بأنه فنَّد وخرف ورُدَّ إلى أرذل العمر، ليحرم عن الأمَّة – بهذه الفرية – علمه، وليخلو له الجوّ ويستنسر وبالتّالي ينشرُ بضاعته المزجاة بين من لا يستطيع التمييز بين التّبر والترب ولا بين الغث والسمن.

ألهم الله فضيلة الشيخ عمر الفاروق قبل موته بأيام أن يفنّدَ هذه الفرية ، وأظهر ما في وِطابه من قوَّة الذّاكرة، وحضور العارضة، فأسقط القناع عن شانئه، وبدا للداني والقاصي خطبُ الفرية، وشناعةُ القول بغير علم.

وللحديث بقيّة إن شاء الله

الدكتور يوسف أحمد

الشيح يوسف أحمد ... طالب في دراسة الدكتوارة. تخرجت كلية الدراسات الاسلامية بمقدشو عام 1989. إمام وخطيب بمسجد في السويد.
زر الذهاب إلى الأعلى