جَائِحَة كرونا تَجتَاحُ العالم، وَتتحدَّاه!

 

قال التلميذ لشيخه “هيَّان”: ترى ما حل بساحة العالم مما لم يكن أحد يتوقه بالأمس الماضي فهل من مقدمة موجزة قبل الدخول في صلب الحدث؟

قال الشيخ بيّان: يا بنيَّ! لقد حل بساحة العالم جائحة عجيبة، هزت الكون، وأظهرت ضعف ابن آدم، ودول الأقوياء كانوا أمس الماضي في حرب شرس ضد ما أطلقوا عليه “الحرب على الإرهاب” ووظفوا في هذا الحرب دولا ومؤسسات متنوعة، عسكرية، واقتصادية، وإعلامية، بينما العالم منهمك في هذا الحرب المفتعل، واستبيحت به دماء أبرياء، واحتلت به أوطانا ضعفاء، وسلبت به حقوقا جماء، واستعبدت به أمما شرفاء، وفعل به في العراق، والصين، وأفغانستان، والصومال، ومصر، وفلسطين، واليمن.. ما يشيب له الولدان، من همجية صلعاء، وبربرية عجرفاء، مما دل ما يعاني به العالم المعاصر من أزمة أخلاقية وإنسانية، وأنه تقوده حضارة انسلخت عن أدميتها، وتعفنت ضمائرها، وقست أفئدتها، واختلت قيمها، وتوغلت في دياجير الكفر والضلال، والعصبية البغضاء، فلا تُعبد إلا مادة، ولا تحسب للأخلاق أيَّ حساب إلا ما يَدرُّ لها ربحا ماديا، وأفواه الرأسمالية فاغرة، لا تملؤها إلا التراب؛ وبطونها المتدلية تقول: هل من مزيد!

وتفتح -لا كانت – فماً لو رأيته.. توهّمته بابا من النار يفتح

           فما ضحكت في النّاس إلّا ظننتها.. أمامهم كلبا يهرّ وينبح

 وفي هذا الخضم ظهر فجأة للعالم “إرهاب من نوع آخر” فهو مرهب حقيقي لا مصطنع، فهو قاتل جاد لا هازل، ظهرت عدوى مجهرية  لا ترى بالعين المجردة،  ظهر في بلد يأكل أهله الحشرات والقطط والكلاب والثعابين وجميع الخبائث، وبعد نزوله بساحة العالم لم يعد الكون بعالم الأمس، بل زيارة هذا الفيروس بكرة الأرض قلَّبت العالمَ رأسا على عقب، وأجهزت على عنتريات الدول المغرورة، وكشفت هشاشة علاقة الدول والتحالفات الخادعة في زمن الرخاء، وأغلقت كل دولة حدودها القومي، تسمع صراخ جارتها وحليفتها الاستراتيجي، وترى الضحايا المبعثرة في الشوارع؛ ولكن لا تحرك ساكنا، ولا تؤدي واجب الجيران والحلف، بل لسان حال كل دولة يقول: ” لكل منا شأن يغنيه” كل دولة تستميت لإنقاذ من شعبها ما يمكن إنقاذه، وفعل ما يمكن فعله؛ لتقليل مؤشر الكارثة المحتملة المحدقة.

   وأما الشعوب قفد تبدلت عاداتها، وتغيرت نمط حياتها، إذ تقطعت الأواصر، وتوقفت الزيارات المتبادلة، وأغلقت محافل الاجتماع، ونوادي الأنس والتلاقي، كل عائلة تقوقع على نفسها،  وتسجن نفسها بين جدرانها الأربعة، فإذا أحوجت الضرورة إلى أحد أفراد الأسرة للتسوُّق، أو لأداء واجب ضروري خارج البيت، فالأسرة تفرض عليه حَجرا صحيا عند قفوله، والكل يتذمر منه، وترتجف منه الفرائص خوفا ما يمكن أن يحمله إليهم من العدوى والأوبئة، والطاعون المنتشر، فإن مدّ يده إلى أحب الناس إليه ليصافحه يكون جزاؤه” لإن بسطت إليَّ يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتك إني أخاف الله رب العالمين”.

  عادة تبادل الهدايا والأطعمة والملح والماعون مع الجيران فقد عفى عليها الزمن، وصارت من العادات البالية، ويشك كل جار جاره بأنه بؤرة الأوبئة، ومصدر الجائحة، وأنه يمثل تهديدا حقيقيا لحياته وحيات أسرته.

 وترتب على ذلك بأن كبار السن والعزاب الذين كانت لهم نظريات سلبية عن الزواج والانجاب أنهم يعيشون في أزمة حقيقية. فهذه “مَرغِيتا” جارتي قد أشرفت على تسعين سنة من عمرها، تعيش لوحدها في غرفة استأجرتها، حياتها تشبه حياة النملة: تخزن وتكدس طعامها في بيتها أيام الشتاء، فلا تبرح في بيتها، ولا تبرز إلى الخارج، وتأكل طعامها وتتدفأ عن زمهرير البرد وعادياته، وتظهر في شهور الصيف لتستنشق العليل، وتستدفئ الحرارة،  وفي زمن قوتها وشبابها كانت تؤمن بأنه لا داعي للمرأة المعاصرة أن تنجب؛ لأن شركات الضمان الاجتماعية، ونظام التقاعد وما يوفر لها من رفاهية، وعيش باذخ يعوض لها الأطفال، ويخفف عنها مشقة الإنجاب والتربية، ويحفظ لها صحتها؛ ولكن عندما حلت الجائحة بساحتها، واتسعت الرقعة على شركات الضمان الاجتماعية، وفقدت جدوتها، صارت ” مَرغِيتا” في عالم النسيان تلاقي حتفها وحدها في بيتها، لا قرابة تسألها، ولا حفيدا تملكها، ولا شركة تنفعها، وأحكمت إغلاق أبوابها – كعادتها – قبل وفاتها ؛ لكنَّ قِطَطَها الجائعة لم تجد حلا آخر لبقائها على قيد الحياة إلا أن تأكل جثّة “مرغيتا”، وتستأثر الأعضاء الرخوة من جسدها، كالعيون، والأنف، والأذن، مما شوه جسدها الذي أنهكته السنون، وأرهقته الوحدة.

  وأما العزَّاب في زمن “كَرونا” فهم في ورطة، لا أنيس يؤنسهم، لا شريكة حياة تخفف عنه وطأة الهلع والخوف، لا ذرية تشغلهم عن الهموم والهواجس، فهم في سجنهم مع التليفون والتلفاز.

هذا الوباء وما ترك في العالم من آثار قوية، وهزة عنيفة، يدل على أن هذا العالم الذي نعيش فيه ليس مكانا آمنا يمكن الثقة به، ولا يمكن التكهن في المستقبل، بل في كل لحظة يمكن أن تحدث فيه كارثة أو حادث قوي يغير وجهة مسيره، ويرسم له ملامح جديدة لم تتوقعه البشرية سابقا، ولم تحسب له حسابا. والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

قال التلميذ هيّان: في صدد ذكرك هذه العاهة التي تشن غارتها المتلاحقة على العالم استعملت مصطلح: الجائحة، فما يعني هذه المصطلحات؟

قال الشيخ: أما الجائحة فلنسأل اللغوي ” الفيروز آبادي” يقولنا: أصلها الجوح بمعنى الإهلاك والاستئصال أهـ. أما طبيا فالوباء لا يسمى جائحة _ وجمعها جوائح _: حتى تتوفر فيها العلامات التالية:

  • أن ينتشر بين البشر بدل الحيوانات.
  • أن يشمل مساحات واسعة من الأرض كقارة مثلا أو يغطى العالم كله، ولهذا يعتبر فيروس كرونا 19 من الجوائح، لأنه “انتشر رسميا عبر مناطق جغرافية كبيرة تغطي قارات متعددة والعالم بأسره” (منظمة الصحة العالمية).

قال التلميذ هيان: ماذا يقول الدين عن الأشخاص الذين لا يطبقون التدابير الوقائية لحدِّ انشار العدوى، ولا يمتنعون بزيارة المسنين، والتجمعات الكبيرة مما يعرضهم لخطر إصابة الفيروس المؤدي إلى وفاة محتملة؟

قال الشيخ: أقول ملخصا:

يحرم على مَن يظن أنه مصاب بالفيروس والعدوى الاختلاطَ مع المصلين، وحضورَ التجمعات الكبيرة، وتعريض حيات الناس للخطر، والأدلة الدالة على ذلك طافحة كثيرة أوجزها بالنقاط التالية:

أولا: أن الله تعالى نهانا عن قتل أنفسنا ” ولا تقتلوا أنفسكم” أي لا يقتل بعضكم بعضا، بأي وسيلة كانت، ومنها تعدية الناس بالأمراض والأوبئة المنتشرة.

ثانيا: منع النبي صلى الله عليه وسلم دخول المدينة لرجل مصاب “بجذوم وأمره أن يرجع” كما في صحيح مسلم؛ لأنه صلى الله عليه وسلم خاف العدوى على أهل المدينة، وفيروس كرونة أخطر وأسرع انتشارا من الجذام.

ثالثا: أنه (ص) “نهى لا يُورِدُ مُمْرِضٌ علَى مُصِحٍّ ” وحيث نَهى الخلط بين الحيوانات الصحيحة والمريضة بالأمراض المعدية؛ فمنعُ الاحتكاك بين المرضى مِن البشر والأصحاء منهم في المساجد وغيرها أهمُّ وأولى.

رابعا: أنه صلى الله عليه وسلم نهى إلحاق أيِّ ضرر بالمسلم لقوله” لا ضرر ولا ضرار” والنفي في الحديث بمعنى النهي، بل أبلغ؛ كأنه يقول لا ضرر يُتصور من المسلم أصلا؛ لأن المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، وأيُّ ضرر أعظم مَن عدى إليه مرضا يودي به حيات أخيه.

خامسا: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يقترب المساجد من أكل ثوما أو بصلا من الأطعمة الكريهة، والنهي معلل بعدم إيذاء عمارة المساجد والمصلين، فتحريم اقتراب المساجد لمن به مرض معد أولى وأوضح.

سادسا: أنه صلى الله عليه وسلم أمر الاحتياط والابتعاد عمن يُتوقع أنه يحمل الأمراض المعدية؛ لقوله صلى الله عليه وسلم ” وفر من المجذوم فرارك من الأسد” فكيف يُجاز للاختلاط بعمار المساجد بمن أُمر أن يُفرَّ منه!

سابعا: أن الشارع أمر التداوي وأخذ جميع الأسباب، ومنها: منع الاختلاط مع مَن به مرض يسري إلى الغير؛ لقوله صلى الله عليه وسلم عند ما سأله الأعراب عن التداوي: ” تداووا فإن الله عز وجل لم يضع داء إلا وضع له دواء غير داء واحد الهرم“، ومن أنجع وسائل التداوي الوقاية من المرض والعدوى قبل انتشارها كما هو معلوم.

قال العيني: فيه إباحة التداوي وجواز الطب وهو رد على الصوفية أن الولاية لا تتم إلا إذا رضي بجميع ما نزل به من البلاء ولا يجوز له مداواته وهو خلاف ما أباحه الشارع انتهى.

ثامنا: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى دخولَ الأراضي الموبوءة بالأمراض المعدية؛ لئلا يصاب الأصحاء بالمرض؛ فيُمنع المصاب بالمرض الاحتكاك بالأصحاء.

وهذه الأدلة الواضحات وغيرها مما تركناها اختصارا قاضية – مما لا يدع مجالا للشك – على أن المكلف الذي تفرط بأخذ التدابير الشرعية، وألحق ضررا بنفسه، أو بغيره فإنه آثم.

أما إذا جازف ونقل العدوى فمات أحد بسببها أثم وعلى عاقلته الدية، وبهذا أفتى بعض الفقهاء لمن نقل عدوى الطَّاعون إلى غيره فمات به.

أما إذا لم يجازف، ولم يعلم أنه مصاب بالعدوى وأخذ بجميع الاحتياطات فنرجو أن يغفر الله له؛ لأنه مخطئ والمخطئ معفو عنه لقوله تعالى ” رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَ” وقال تعالى: “قد فعلتُ” ولقوله تعالى” وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ، ولَكنْ مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ ۚ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا”

يوسف أحمد

السويد

الدكتور يوسف أحمد

الشيح يوسف أحمد ... طالب في دراسة الدكتوارة. تخرجت كلية الدراسات الاسلامية بمقدشو عام 1989. إمام وخطيب بمسجد في السويد.
زر الذهاب إلى الأعلى