3 سنوات من الهيمنة السودانية على ساحل الصومال (1877 – 1880)

gilaafالجزء الأول:

 مقدمة 

 هذا هو الجزء الأول من ترجمة لمقال للباحثة أليس موور – هاريل تم نشره في العدد الرابع من مجلة “دراسات شمال شرق أفريقيا” والصادر في عام 1997م.  وتعمل الدكتورة اليس مور – هاريل الآن – بحسب سيرتها المبذولة في بعض المواقع الإسفيرية – باحثة مستقلة، بعد أن تقاعدت عن التدريس في قسم الإسلام والشرق الأوسط في الجامعة العبرية في القدس. وهي مؤلفة لعدد من المقالات والكتب عن السودان منها كتاب عن المهدية صدر في عام 2001م عنوانه ” غردون والسودان” ومقال بعنوان “تجارة الرقيق في السودان في القرن التاسع عشر ومنعها بين عامي 1877 – 1880م” قمنا بنشر ترجمة موجزة لبعض أجزائه. 

وليس بخاف أن “الهيمنة السودانية” المذكورة في العنوان لم تكن “سودانية” بحق، إذ أن السودان كان في تلك الوقت يرزح تحت نير استعمار “التركية السابقة”. 

المترجم

تشير كثير من وثائق الإدارة المصرية  والبريطانية في السودان والموجودة في “دار الوثائق المصرية”، و”دار الوثائق العامة” بلندن، ووثائق غردون باشا حاكم عام السودان بين عامي 1977 – 1880م إلى تاريخ مثير لفترة استثنائية في تاريخ الإدارة المصرية في القرن الإفريقي، سيطرت فيه تلك الإدارة على مدن الموانئ الرئيسة على الساحل الصومالي من تاجورا (Tadjoura) وبربرة (Berbera)، وبينهما هرر (Harar). وفصلت إدارة تلك المدن من الإدارة المصرية ومنحت للسلطات السودانية، والتي كانت في تلك السنوات مستقلة تماما عن السيطرة المصرية.

وكانت مصر قد أحكمت سيطرتها الكاملة على الساحل الغربي من البحر الأحمر في مايو من عام 1865م، عندما أصدر الخليفة العثماني فرمانا منح بموجبه الخديوي إسماعيل (1865 – 1879م) مينائي سواكن ومصوع. وفي عام 1866م صدر فرمان آخر ملك هذين المينائين للخديوي كهدية شخصية له طوال فترة حكمه، على أن تعود ملكيتهما بعد وفاته إلى الحكومة المصرية، وليس لورثته.

وأدعى الخديوي لاحقا أن ذلك الفرمان يشمل أيضا ساحل الصومال على خليج عدن. وقبل الديوان العثماني بذلك، فصدر فرمان سلطاني آخر في 1875م بمنح الخديوي ساحل الصومال أيضا.

وليس هنالك تأكيد مباشر وموثوق به على أن منح الخديوي لتلك الأجزاء من الخلافة العثمانية في فرمان 1856م قد حدث عن طريق توزيع الرَشَاوَى والهدايا للمتنفذين في البلاط العثماني في إسطنبول، بينما ثبت أن فرمان 1866م قد صدر بتلك الطرق (الملتوية). أما منح السلطان العثماني لساحل الصومال هدية للخديوي فقد تم بعد أن دفع الخديوي رشوة بلغ مقدارها خمسة عشر ألفا من الجنيهات المصرية للسلطان عبد العزيز (1861- 1876م) لمنحه زيلع Zeila  على ساحل الصومال. وسيطرت المصريون فعليا على ساحل الصومال من تاجورا إلى رأس حافون Ras Hafun على المحيط الهندي.  واستقروا أولا على المدن الساحلية، وضموا في عام 1875 إمارة هرر في أراضي الصومال الداخلية.

وكان إصرار الخديوي على بسط السيطرة المصرية على تلك المناطق نابعا من طموحه في بناء امبراطورية مصرية في أفريقيا، ولحماية حدود مصر الجنوبية. وبالنظر إلى مستقبل المنطقة ووضعها الجغرافي السياسي، خاصة بعد افتتاح قناة السويس في عام 1869م، فقد كان من الضروري لمصر إتمام كامل السيطرة على البحر الأحمر والساحل الصومالي لضمان أمن السودان والذي وقع تحت السيطرة المصرية – التركية في عامي 1820 – 1821م في غضون سنوات حكم محمد علي باشا.

ولم يواجه المصريون أي صعوبة في إحكام السيطرة على مدن ساحل الصومال، غير أن السيطرة على المناطق الداخلية فيه كانت عسيرة عليهم بسبب صمود رجال القبائل الصومالية ضدهم. ومما زاد الموقف تعقيدا أن القبائل الصومالية لم تكن على قلب رجل واحد، وكانت منقسمة إلى عشائر متخاصمة وتنازع بعضها البعض حول ملكية الأرض.  ورغم صمود رجال القبائل الصومالية إلا أن الجيش المصري أفلح في إثبات وجوده في أراضي الصومال الداخلية.  وظل الوضع على ذلك النحو حتى عام 1884، حين قررت مصر الانسحاب من أراضي الصومال بسبب قيام الثورة المهدية في السودان، وعزل الإقليم عن مصر.

إخضاع الساحل الصومالي للإدارة السودانية

قرر الخديوي إسماعيل ضم مناطق الساحل الصومالي (تاجورا وبربرة وهرر وزيلع) ووضعها تحت الإدارة السودانية بقيادة شارلس غردون، والذي كان قد عينه حاكما عاما على السودان في فبراير من عام 1877م. وبهذا فقد كانت تلك المناطق السودانية تتبع رسميا لمديرية البحر الأحمر السودانية، إلا أن إدارتها الفعلية كانت تتبع مباشرة للحاكم العام في الخرطوم، وليس لحاكم مديرية البحر الأحمر. وأصدر الخديوي إسماعيل مرسوما أعلن فيه تبعية الأراضي الصومالية للإدارة السودانية، وأن يتبع حكام تلك الأقاليم لغردون مباشرة.  وكان الخديوي يقدر غردون عاليا ويوليه ثقته الكاملة ويؤمن بأنه سيحافظ على “ممتلكات” مصر في إفريقيا، ويحميها من الاعتداءات الإثيوبية المحتملة.  ولعلمه بصعوبة إدارة تلك المناطق قرر الخديوي التكفل بتمويل إدارة تلك المناطق من ميزانية الحكومة المصرية مباشرة.  وسمح لحكام المناطق الصومالية المحتلة بالاتصال بالقاهرة مباشرة (وتخطي الخرطوم) للحصول على معونات مالية في حالات الأزمات الطارئة.  إلا أن غردون كان مسئولا عن إدارة شئون المستعمرات الصومالية في الأحوال العادية.  وكانت تلك هي المرة الأولى في تاريخ الصومال التي تقع بعض مناطق شواطئها تحت الإدارة السودانية في الخرطوم. 

وكان غردون يعي جيدا صعوبة بسط سيطرته الكاملة على تلك المناطق الصومالية بسبب الصراعات السياسية المحلية، واحتمال حدوث غزو إثيوبي، والأعباء الاقتصادية الإضافية التي تلقيها إدارة تلك المناطق البعيدة على السودان (الفقير نسبيا).  ورفضت القبائل الصومالية القاطنة على ساحل الصومال وفي المناطق الداخلية في جنوب مصوع وحتى بربرة الاعتراف بالسيطرة المصرية. وثار الأهالي في بربرة أيضا بصورة مستمرة ضد الوجود المصري. وظلت إثيوبيا مصدر تهديد دائم للأمن في المنطقة. فقد كانت العلاقات بين إثيوبيا ومصر في حالة توتر دائم بسبب الصراع على إرتريا، وبسبب المعركتين اللتين دارتا بين الدولتين في 1875 – 1876م، والمرارة التي خلفها الصراع بين الدولتين، واحتمال هجوم إثيوبيا على مصوع وهرر، والتي كان إثيوبيا تدعي حقوقا تاريخية في ملكيتهما. وكانت مصر قد هزمت في المعركتين، ووجدت نفسها في نهايات سبعينيات القرن التاسع عشر مفلسة تماما، ولا ترغب إلا في تحاشي حرب مكلفة أخرى. 

وشكلت العوائق الطبوغرافية والبعد الجغرافي للساحل الصومالي عن السودان مشاكل عديدة في الاتصالات، وخلقت عائقا إضافيا بين الإدارة المحلية والسلطات في الخرطوم. وبالإضافة لذلك لم يكن غردون راضيا عن الحكام المصريين الذين عينتهم القاهرة في مدن الساحل الصومالي قبل وصول غردون للخرطوم. فقد كان بعض أولئك الحكام قد رفضوا مقدما تعيين غردون حاكما عاما على السودان، وهذا مما جعل العلاقة الشخصية بينهم وبين غردون في غاية السوء، وزاد ذلك من صعوبة عمل غردون في إدارة تلك المناطق.

وكان شيوع تجارة الرقيق على الساحل الصومالي من أهم الصعوبات التي قابلت غردون في إدارة الأراضي الصومالية. وقد كان من ضمن شروط عمل غردون في السودان والتي وضعها له الخديوي إسماعيل هو تثبيط تجارة الرقيق في السودان (وصارت حدود السودان الآن تمتد إلى ساحل الصومال).  وقد كانت المنطقة شمال بربرة وحتى مصوع (والتي كانت تسكنها قبيلة الدناكل  Danakil) تعد منفذا جيدا لتصدير المسترقين والمسترقات من جنوب إثيوبيا، وكان القاطنون بتلك المنطقة يعملون في تجارة الرقيق منذ قرون طويلة. وكانت هنالك أيضا تجارة نشطة للرقيق الإثيوبي إلى شبه الجزيرة العربية من منطقة زيلع.

لقد كان تثبيط تجارة الرقيق في الأراضي السودانية أمرا عسيرا، بيد أنه كان أشد عسرا في مناطق ساحل الصومال. ولم يكن لغردون أي أمل في منع أو تثبيط تلك التجارة دون توطيد أركان حكمه في الأراضي التي وضع على رأسها. ولم يكن له أن يفعل ذلك دون تعاون حكام المناطق المحليين.

ولم ينقطع غردون طوال فترة حكمه للسودان بين عامي 1877 – 1880م عن مطالبة الخديوي إسماعيل والحكومة المصرية مرارا وتكررا بفصل ساحل الصومال عن إدارة السودان بسبب كل ما سبق ذكره من الصعوبات الموضوعية في إدارة تلك المناطق، وبسبب المصاعب المالية والاقتصادية التي كان يكابدها هو شخصيا في إدارة السودان.  ولم يكن هنالك أي أمل عنده في جمع أي ضرائب من سكان ساحل الصومال التابع للإدارة السودانية. وقامت مصر بعقد اتفاق مع بريطانيا في عام 1877م قضى بعدم فرض أي ضريبة استيراد أو تصدير من موانئ الساحل الصومالي. وبذا فقد السودان مصدرا مهما للدخل كان سيصلح من وضعه الاقتصادي المتردي، ويعنيه على تحمل تكاليف إدارة تلك المناطق الصومالية. 

وكان الخديوي إسماعيل يدرك مدى الصعوبات التي كان يواجهها غردون، غير أنه كان يتحاشى اتخاذ أي قرار يحسم وضع الأراضي الصومالية التي أحتلها. وذات مرة اقترح الخديوي فصل تلك الأراضي عن سلطة غردون ووضعها تحت إقليم مستقل له ميزانية منفصلة. واقترح في مرة أخرى تعيين عالم الطبيعة الألماني يورغ اشفاينفورث، والذي عمل في استكشاف ساحل الصومال، حاكما لذلك الإقليم (عاش عالم النبات يورغ اشفاينفورث بين عامي 1836 و1925م، وقام برحلات استكشافية في مناطق السودان وإثيوبيا والصومال وجزيرة العرب ومصر، حيث عمل رئيسا للجمعية الجغرافية الخديوية بالقاهرة. المترجم).

وبحثت الحكومة المصرية طلب غردون، غير أنها لم تعطه إجابة نهائية حتى نهاية عام 1879م حين أخبرته برفض طلبه لفصل الساحل الصومالي عن إدارة السودان. بل وطلبت منه العمل على تطوير تلك المناطق حتى تصبح في يوم قريب مديرية من ضمن مديريات السودان الأخرى.

ورغم أن خطاب تعيين غردون حاكما عاما على السودان كان ينص على أن غردون ليس مسائلا أمام الحكومة المصرية، بل أمام الخديوي شخصيا، فقد وافق غردون على طلب الحكومة المصرية له بالاستمرار في إدارة الساحل الصومالي. وظل غردون يطالب الحكومة المصرية بين كل حين وآخر بفصل ساحل الصومال عن إدارة السودان، ولكن دون طائل. وعندما غادر غردون السودان في يوليو من عام 1879م  كان الساحل الصومالي ما يزال يتبع للإدارة السودانية. ولم يغير المصريون من سياستهم تجاه ساحل الصومال حتى يوم استقالة غردون من حكم السودان في يناير 1880م، حين قررت الحكومة المصرية أن تتولى أمر إدارة الساحل الصومالي بنفسها.     

الجزء الثاني: ثلاث سنوات من الهيمنة السودانية على ساحل الصومال (2)

 مقدمة: 

هذا هو الجزء الثاني والأخير من ترجمة لمقال للباحثة أليس موور – هاريل تم نشره في العدد الرابع من مجلة “دراسات شمال شرق أفريقيا” والصادر في عام 1997م.  وتعمل الدكتورة أليس مور – هاريل الآن – بحسب سيرتها المبذولة في بعض المواقع الإسفيرية – باحثة مستقلة، بعد أن تقاعدت عن التدريس في قسم الإسلام والشرق الأوسط في الجامعة العبرية في القدس. وهي مؤلفة لعدد من المقالات والكتب عن السودان منها كتاب عن المهدية صدر في عام 2001م عنوانه ” غردون والسودان” ومقال بعنوان “تجارة الرقيق في السودان في القرن التاسع عشر ومنعها بين عامي 1877 – 1880م” قمنا بنشر ترجمة موجزة لبعض أجزائه.

وليس بخاف أن “الهيمنة السودانية” المذكورة في العنوان لم تكن “سودانية” بحق، إذ أن السودان كان في تلك الوقت يرزح تحت نير استعمار “التركية السابقة”. 

الإدارة السودانية للساحل الصومالي

شهدت مدن الموانئ الواقعة على الساحل الصومالي بحلول عام 1877م حركة بناء وتعمير نشطة قام بها المصريون، واستمرت تلك الحركة خلال سنوات الإدارة السودانية للمنطقة. وتركز نشاط المصريين في مينائي بربرة وزيلع، ومدينة هرر الداخلية.

وخلال فترة حكم غردون للمنطقة، وبسبب مبادرات قام بها حكام المناطق المحليين، تواصل مد البناء والتعمير في هرر وبربرة على الرغم من الصعوبات المالية والاقتصادية التي كانت تحيط بهما، ورغما عن الاضطرابات الشعبية التي ظلت تندلع بين فينة وأخرى، خاصة في منطقة هرر.

وكان غردون يعارض باستمرار إلزام السودان (الفقير اقتصاديا) بدفع تكاليف حركة البناء والتعمير في الأراضي الصومالية التي أحتلها المصريون. فعلى سبيل المثال كان على السودان تولي دفع مبلغ سبعين ألف جنيه مصري من ميزانيته لبناء منارة  lighthouseجديدة في ميناء بربرة، رغم أن ذلك المشروع كان قد أجيز قبل أن تؤول إدارة الساحل الصومالي للإدارة السودانية بقيادة غردون.  وكان غردون لا يرى أي جدوى لقيام الحكام المحليين المصريين الذين عينهم الخديوي لإدارة المناطق الصومالية المحتلة بالصرف على مشروعات تعمير ليس لها ما يبررها اقتصاديا. فقد كانت تكاليف إعاشة الحامية الحربية في ميناء بربرة، وصيانة السفن الحربية الراسية فيها تبلغ أربعين ألفا من الجنيهات المصرية سنويا، بينما لم يتعد الدخل الحكومي من الميناء مبلغ 170 جنيها مصريا فقط. وحرم السودان بموجب اتفاق مصري – بريطاني من الحصول على أية ضرائب أو جمارك على ما يستورد أو يصدر من موانئ ساحل الصومال إلى عدن. وبدا وكأن السودان (الفقير) يدعم ما تستورده بريطانيا من طعام (رخيص)  إلى مينائها في عدن.

وبحسب تقرير لخبير بريطاني اسمه موريس بيه قدم لزيارة ميناء بربرة في 1877م في حملة لمنع تجارة الرقيق، فقد كان ذلك الميناء يتمتع بحماية طبيعية، وبرصيف طويل، ومياه عميقة تتيح له استقبال سفن كبيرة الحجم، وبمنارة جديدة وإمكانات فنية تجعله من أفضل الموانئ بالمنطقة.  وذكر موريس بيه أن كل المباني الحكومية بالبلدة، وخاصة مسجدها الكبير، كانت في حالة ممتازة، وتدار بصورة حسنة. وكانت المدينة قبلة لعدد كبير من التجار الأجانب وذلك لعدم فرضها لأي ضرائب على كل ما يستورد أو يصدرها منها، ولتوفر الأمن فيها بفضل وجود قوة كبيرة من جنود الحكومة (المصرية). ولم يلحظ موريس بيه أي دليل على وجود تجارة للرقيق عبر الميناء في المدة التي قضاها في المدينة. وخلص الرجل إلى أن الأهالي قد قبلوا بالوجود المصري على أرضهم، وليست لديهم أي نية للثورة ضده. وازدهرت الأوضاع الاقتصادية أيضا في هرر برغم الاضطرابات الأمنية والاحتجاجات الشعبية على الوجود المصري بها، ربما بسبب الوجود العسكري المصري الكثيف بها (والذي كان يتكون من 3000 جنديا). 

أما زيلع فلم تشهد مثل ذلك الازدهار الذي حدث في هرر وبربرة رغم مينائها الجيد، وعلى الرغم أنها مدينة صغيرة يقوم اقتصادها على تصدير المسترقين والمسترقات تحت سمع وبصر (بل وبعون) من السلطات المحلية، وعلى رأسها شيخ يقال له “أبو بكر” (وهو من قبيلة الدناكل)، والذي كان قد عينه الحكم التركي قبل وصول المصريين للمدينة. 

وكما ذكرنا من قبل فقد واجه غردون وهو يدير شئون ساحل الصومال من الخرطوم عددا من المشاكل الخارجية كان يظن أن التهديد الإثيوبي هو أهمها. غير أنه –  للغرابة –  لم تقم إثيوبيا بأي هجوم على المناطق التي أحتلها المصريون في الصومال وأوكلوا إدارتها لحكم عام السودان، بل أتى التهديد من مصدر غير متوقع، وهو الحكومة البريطانية، والتي منعت غردون من فرض أي ضرائب على ما يستورد أو يصدر من بضائع من ميناء بربرة.

ولا ريب أن اهتمام بريطانيا بموانئ ساحل الصومال كان مصدره هو سيطرتها على ميناء عدن، والذي كانت قد استولت عليه في عام 1839م كمحطة بحرية على البحر في الطريق إلى الهند. وبسبب فقر منطقة عدن من المواد الغذائية فإن البريطانيين كانوا في حاجة ماسة لاستيراد اللحوم وغيرها من الأغذية من الصومال لسد حاجة السكان في عدن. وكانت السلطات في عدن والحكومة الهندية أحرص الناس على استدامة الأمن في الساحل الصومالي وعلى ضمان عدم فرض ضرائب وجمارك على ما يصدر ويستورد من بربرة وزيلع.

 واعتبرت بريطانيا احتلال مصر للساحل الصومالي أمرا حميدا يتسق مع مصالحها، إذ أنه يمنع الدول الأوربية الأخرى من الوصول للصومال. ولذا عقدت بريطانيا اتفاقية مع حكومة الخديوي إسماعيل في عام 1877م اعترفت فيه بريطانيا بحق مصر في تملك الساحل الصومالي حتى رأس حافون.  ومن جانبها وافقت مصر على جعل ميناء بربرة ميناءً حراً لا تفرض على ما يستورد أو يصدر منه أي ضرائب أو جمارك، على أن تفرض ضرائب لا تتجاوز 5% على البضائع المستوردة والمصدرة عبر موانئ ساحل الصومال الأخرى. ووافقت مصر على إعطاء المواطنين والتجار والبحارة البريطانيين أفضلية على كل الأجناس الأخرى في المنطقة في كل المجالات. ونصت الاتفاقية أيضا على عدم منح مصر لأي جزء من الساحل الصومالي لأي طرف ثالث في المستقبل (ويشمل ذلك الخلافة العثمانية). وأخيرا وافقت مصر على منع تصدير أو استيراد المسترقين عبر موانئ ساحل الصومال، والسماح للسفن البريطانية بمراقبة وتفتيش كل السفن المغادرة لهذه الموانئ بحثا عن الرقيق، والقبض على تجار الرقيق ومحاكمتهم.

وكانت تلك الاتفاقية تحرم الحكومة المصرية في الخرطوم من الضرائب والجمارك التي كان من المفترض أن تجبى من تصدير 10000 رأسا من الماشية و60000 رأسا من الضأن تصدر عبر ميناء بربرة سنويا إلى عدن. وخلق هذا عجزا في ميزانية بربرة بلغ في عام 1878م وحده مبلغ 14000 جنيها مصريا.

ورفض القنصل البريطاني في القاهرة والبريطانيون في عدن والحكومة الهندية (كما رفضت الحكومة المصرية والخديوي أيضا) كل طلب تقدم به غردون لفرض ضرائب على ما يصدر من حيوانات عبر بربرة، ورفضوا كذلك عرض غردون التخلي عن إدارة الساحل الصومالي. وبذا فقد استمر غردون في إدارة الإقليم بخسارة مالية واقتصادية ضخمة كان عليه تعويضها مما يجنيه من ضرائب ومكوس من مديريات السودان الأخرى. 

وكان غردون دائم الشكوى من حكام مدن الساحل الصومالي من المصريين والأتراك والأوربيين. فقد كان تعليمه وشخصيته تفرض عليه معايير أخلاقية عالية لم تكن متوفرة عند مرؤوسيه من بقية الجنسيات، والذين كانوا لا يتورعون عن قبول الرشاوى وأكل أموال الناس بالباطل واكتناز الثروات.  وكان كثير من هؤلاء الإداريين المصريين والأتراك لا يرغبون حقيقة في العمل بالسودان، ويعدون الفترات التي يقضونها فيه فترة “نفى” حقيقي. وكانوا، كنوع من التعويض عن فترتهم فيه، يقومون بكل الممارسات التي تضمن لهم جمع أكبر قدر من المال دون أدنى اعتبار لمصدره، حتى وإن كان تجارة في الرقيق. وكان هؤلاء الإداريون يبادلون غردون عدم الاحترام، ويقومون بمخاطبة القاهرة مباشرة دون استشارته.  

وكان عمل حكام المناطق الصومالية المحتلة يتضمن أعباءً مدنية وعسكرية أيضا. فهم مسئولون عن القضاء وعن قيادة جنودهم، وحفظ الأمن والنظام في البلاد، وجمع الضرائب ومنع تجارة الرقيق. 

ولم يكن غردون يتدخل في أعمال هؤلاء الحكام المحليين اليومية، غير أنه كان دائم المراقبة لهم، ويتدخل أحيانا عندما يرى ذلك ضروريا. وزار غردون مناطق الساحل الصومالي في ربيع عام 1878م وجمع كل الحكام المحليين وحذرهم من تخطيه والاتصال مباشرة بالقاهرة، وذكرهم بأنهم يعملون تحت إدارته في الخرطوم. وأيده في ذلك التحذير الخديوي في القاهرة. ورغم كل ذلك استمر بعض الحكام في الاتصال مباشرة بالقاهرة وتخطي غردون. ولم يتوقف العداء لغردون عند الحكام المحليين في الساحل الصومالي، بل شمل ذلك العداء أيضا ضابط بحري بريطاني اسمه مالكوم باشا، كان مكلفا بمراقبة وتفتيش السفن في الساحل بحثا عن الرقيق. ورغم أن راتبه كان يأتي من حكومة غردون بالخرطوم، إلا أنه كان لا يأبه البتة لغردون وسلطاته.

وكانت العلاقة بين غردون وأبي بكر حاكم زيلع متوترة بسبب ما عرف عن أبي بكر من المتاجرة بالمسترقين. غير أن غردون لم يوافق مالكوم باشا في مواجهته العنيفة لأبي بكر والتي كانت في نظر غردون تعوزها الحكمة، وقد تحدث تمردا عاما يصعب احتواءه. غير أن غردون كاتب لاحقا الخديوي إسماعيل (ثم الخديوي توفيق من بعده) مطالبا بنفي حاكم زيلع وعائلته إلى الحديدة. ولم يجد غردون أي استجابة من كليهما.  وجعل تمرد رجال بعض القبائل الصومالية ضد الوجود المصري – التركي وضع غردون كمسئول أعلى عن كامل الساحل الصومالي أعسر مما كان عليه قبل ذلك التمرد.

وختاما نخلص إلى أن ضم خديوي مصر لساحل الصومال كانت له أسبابه (الاستعمارية) التوسعية، والاستراتيجية والأمنية والاقتصادية. وكان غردون حاكم عام السودان، وعلى الدوام معارضا لضم ساحل الصومال لإداراته في الخرطوم، وكان يرى أن تتم إدارة ذلك الساحل من القاهرة. ولا ريب أن ثقة الخديوي في غردون كانت هي ما دعته ليوليه أمر ساحل الصومال. غير أن غردون فشل في تحقيق كثير مما كلف به، وكان على رأس قائمة ما كلف به وفشل فيه هو منع تجارة الرقيق. 

وشهدت فترة الاحتلال المصري – التركي لساحل الصومال حركة بناء وتعمير غير مسبوقة وزيادة في الانتعاش التجاري، رغم المصاعب الأمنية واللوجستية. ويمكن أن نعزي تلك التطورات في الأساس للحكام المحليين في مناطق ساحل الصومال المختلفة. وعقب عزل الخديوي إسماعيل في يونيو من عام 1879م، تقدم غردون باستقالته من حكم السودان في يناير 1880م، فأعادت الحكومة المصرية سيطرتها على ساحل الصومال إلى أن اضطرت للتخلي عنها لاحقا بسبب قيام الثورة المهدية.  

زر الذهاب إلى الأعلى