لتعارفوا …. والمجتمع الصومالي

من الآيات الدالة على عظمة الباري سبحانه وتفرده بملكوت السموات والأرض أن خلق الإنسان من طين ثم من نظفة ، ونوَّع    ألوانهم وألسنتهم لتبدو ابداع الباري بأبهى صُورها وجمالها ( وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ ) .

وقد بين الله سبحانه وتعالى الحكمة الكامنة وراء اختلاف وتنوع الخلق حيث قال ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا )  ، ومعنى التعارف المذكور في الأية هو التعارف البريء الذي لا يحمل في طياته سوابق ولا لواحق ضارة أو نافعة بل بمجرد التعرف كما يقال فلان ابن فلان من قبيلة كذا وكذا، ومن بلدة كذا وكذا ، أو غير ذلك مما يتعارف عليه الناس في كل زمان ومكان .

وقد أمر الشارع بتعلم النسب لكي يستطيع الإنسان بتوثيق الصِّلة بمن أُمِر بصلتهم  ، وفي الحديث عن أبي هريرة رضي اللّه عنه عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: (تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم، فإن صلة الرحم محبة في الأهل مثراة في المال منسأة في الأثر) حديث حسن .

وهذا التعارف لا يقتصر بمجرد الإسم والنسب فقط ، لأن ذلك قد لا يلبي حاجة الانسان في معرفة الأخر ، لأنه قد يخطر في باله بأن يشاركه في عمل تجاري ، أو إسناده إلى مسؤولية مادية أو معنوية ، أو التزاوج منه ، أو غير ذلك من المعاملات التي تجرى بين بني البشر ، فيضطر الشخص بالبحث والسؤال عن هذا الانسان بقدر الحاجة المطلوبة في هذا الشأن .

والتعارف المذكور لا يؤثر سلبا على حق الانسان في الحياة ، والتمتع بحقوقه الشرعية والقانونية من تولي المسؤولية ووصول المناصب العليا في الدولة ما دام يحمل الكفاءة المطلوبة في ذلك ، كما لا ينقصه من مكانته الأدبية بين المجتمع سواء انتسب إلى قبيلة كبيرة أو صغيرة ، أو جاء من أسرة غنية أو فقيرة ، أو نشأ وترعرع في مدينة مشهورة أو قرية نائية مغمورة ، ولا يكون سببا لانتقاصه أوتوصيفه بما لا يليق به ، ولا يمنع هذا التعارف من تصدُّره في المشهد الدعوي والعلمي والثقافي إذا كان المعيار في هذا المجال هو النبوغ والفهم والعلم . 

وإذا نظرت إلى كتب التراجم والسير والأخبار في ماضي تاريخ الإسلام وحاضره فلا تجد أي أثر سلبي أوجد هذا التعارف النَسَبي بين المسلمين في مختلف عصورهم –  ارتفاعا وانحطاطا –  في تشويه صورة المسلمين الناصعة ، بل كان التعارف يبقى ولا يتعدى الحدود المرسومة له من قِبل الشرع ، فكان الشخص يتقدم أو يتأخر حسب عطائه وكفاءته  وعلمه وعصاميته من غير التعريج أو البحث عن أصله وفصله كما يقال ، ولأجل ذلك نبغ في الأمة عظماء وكبراء ملأو الدنيا شرفا ورونقا وعلما، وهذا مصداق قول الباري سبحانه ( يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ) ، وأخرج مسلم بسنده عَنْ ابْنِ شِهَابٍ ، عَنْ عَامِرِ بْنِ وَاثِلَةَ : أَنَّ نَافِعَ بْنَ عَبْدِ الْحَارِثِ لَقِيَ عُمَرَ بِعُسْفَانَ ، وَكَانَ  عُمَرُ يَسْتَعْمِلُهُ عَلَى مَكَّةَ فَقَالَ : مَنْ اسْتَعْمَلْتَ عَلَى أَهْلِ الْوَادِي ؟ فَقَالَ : ابْنَ أَبْزَى ، قَالَ : وَمَنْ  ابْنُ أَبْزَى ؟  قَالَ : مَوْلًى مِنْ مَوَالِينَا ، قَالَ : فَاسْتَخْلَفْتَ عَلَيْهِمْ مَوْلًى ، قَالَ : إِنَّهُ قَارِئٌ لِكِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، وَإِنَّهُ عَالِمٌ بِالْفَرَائِضِ ، قَالَ عُمَرُ  : أَمَا إِنَّ نَبِيَّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ قَالَ : ( إِنَّ اللَّهَ يَرْفَعُ بِهَذَا الْكِتَابِ أَقْوَامًا وَيَضَعُ بِهِ آخَرِينَ )  .

وروى البخاري في صحيحه بسنده قال : حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ صَالِحٍ ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ ، أَخْبَرَنِي ابْنُ جُرَيْجٍ ، أَنَّ نَافِعًا  أَخْبَرَهُ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ  رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَخْبَرَهُ قَالَ : كَانَ سَالِمٌ  مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ  يَؤُمُّ الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ ، وَأَصْحَابَ النَّبِيِّ  صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ  فِي مَسْجِدِ قُبَاءٍ فِيهِمْ : أَبُو بَكْرٍ ، وَعُمَرُ ، وَأَبُو سَلَمَةَ ، وَزَيْدٌ ، وَعَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ .

وهذا يدل بأن التعارف في زمن الأخيار والصلحاء لم يكن يتجاوز حدوده الشرعي .

وأما القصة التي جرت بين أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان وبين الإمام محمد بن شهاب الزهري وإن كان في سندها مقال -ولا مانع من ذكرها وروايتها ما دامت لا تتناول بأمور تتعلق باالحلال أو الحرام أو الاعتقاد – تبينُ ما كان عليه الناس من الدينانة ووضع المسميات في مكانها الصحيح ،  روى الحاكم في معرفة علوم الحديث بسنده عن  الوليد بن محمد الموقري ، قال : سمعت محمد بن مسلم بن شهاب الزهري يقول : قدمت على عبد الملك بن مروان فقال لي : من أين قدمت يا زهري ؟ ، قلت : من مكة . قال : فمن خلَّفت يسودُ أهلها ؟ ،  قال : قلت : عطاء بن أبي رباح . قال : فمن العرب أم من الموالي ؟ قلت : من الموالي . قال : فبما سادهم ؟ قال : بالديانة والرواية . قال : إن أهل الديانة والرواية لينبغي أن يسودوا . قال : فمن يسود أهل اليمن ؟ قال : قلت طاوس بن كيسان . قال : فمن العرب أم من الموالي ؟ قال : قلت : من الموالي . قال : فبما سادهم ؟ قال : قلت : بما ساد به عطاء . قال : إنه لينبغي ذلك . قال : فمن يسود أهل مصر ؟ قلت : يزيد بن أبي حبيب . قال : فمن العرب أم من الموالي ؟ قال : قلت : من الموالي . قال : فمن يسود أهل الشام ؟ قلت : مكحول . قال : فمن العرب أم من الموالي ؟ قال : قلت : من الموالي ، عَبْدُ  نوبي اعتقته امرأة من هُذيل . قال : فمن يسود أهل الجزيرة ؟ قال : ميمون بن مهران . قال : فمن العرب أم من الموالي ؟ قال : قلت : من الموالي . قال : فمن يسود أهل خرسان ؟ قال : قلت : الضحاك بن مُزاحم . قال : فمن العرب أم من الموالي ؟ قال : قلت : من الموالي . قال : فمن يسود أهل البصرة ؟ قال : الحسن البصري . قال : فمن العرب أم من الموالي ؟ قال : قلت: من الموالي . قال : ويلك فمن يسود أهل الكوفة ؟ قال : إبراهيم النَّخَعي . قال : فمن العرب أم من الموالي ؟ . قال : قلت : من العرب . قال : ويلك يا زهري فرّجت عني ، والله ليسودَّن الموالي على العرب في هذا البلد حتى يُخطب لها على المنابر والعرب تحتها .

قال :قلت : يا أمير المؤمنين إنما هو دين من حفظه ساد ، ومن ضيعه سقط .انتهى .

انظر قول عبد الملك (  إن أهل الديانة والرواية لينبغي أن يسودوا) ، وقول الإمام الزهري ( إنما هو دين من حفظه ساد ومن ضيعه سقط ) ، فهذا الكلام يدل على ما كان يتمتع به هؤلاء الفضلاء من فهم ثاقب لأصول وقواعد هذا الدين الذي يتعامل الناس ،  كل الناس بسواسية وعدل غير منقوص ، وأن التقدم بالعمل والعطاء لا بالنسب والادعاء ( ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه ) و ( إن الله لا ينظر إلى صوركم وأجسامكم ، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم ) .

ولو ذهبنا نبحث عن أثر هذه الأية ( وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ) في تعاملات

وأخلاقيات المجتمع الصومالي بجميع طبقاته وأطيافه المتنوعة من سياسيين وعلماء ودعاة وتجار وحتى العامة والدهماء – إلا من رحم ربك – نجد بأن هذا التعارف لا يجدي نفعا ولا يعطي صاحبه أي دور في المجتمع ولو كان رجلا عصَّاميا فاق أقرانه حيوية ونشاطا ومعرفة وذكاء وعلما وخبرة ، ما لم يتصل هذا التعارف بعلائق القرابة والقبيلة .

فالبطاقة القبلية والانتماء الأُسَري هو الرقم السِّري إلى العبور إلى عالم الشهرة والرئاسة والتصدر في المجتمع ، وهذا الداء زرعته الساسة الفاسدون منذ الإستقلال إلى اليوم ، فلا يتوظف أحد ولا يتولى منصبا ولو كان حقيرا وصغيرا إلا إذا كان معه الرقم السري والمفتاح السّحري الذي يفرق ويصنف أبناء البلد الواحد بسبب انتمائهم وأصولهم العرقي ، وما كان مخفيا من قبل فأصبح اليوم معلنا ومعروفا حتى صارت مناصب الدولة تقتسم بأسس قبلية لا يشترط فيها الكفاءة والمقدرة .

ولكن يبقى هذا الداءُسهلا ويسيرا مع مرارته وقبح منظره  ما دام يدور في حدود الدنيا وحطامها الفاني ولا يتسرب إلى الدين والدعوة والعلم الشرعي ، ولكن الذي يجري  في أرض الواقع هو خلاف ذلك حيث اقتحم هذا المرض في مجال العلم والدعوة وأصبح ملازما لها في خارج وداخل الصومال حتى تأسست منظمات وحركات ومراكز  تدار باسمها ولو تظاهر أصحابها بمسميات أخرى ، وهو حديث الخاصة والعامة في مجالسهم الخاصة .

وإذا أردنا الخير لأنفسنا ومجتمعنا وبلدنا يجب علينا أن نَصْدق مع الله تعالى وأن نحقق مراد الشارع في الأية ( لتعارفوا ) ، ونعلم أن المعيار الحقيقي في التفاضل هو ( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ  ،إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ) .

وفقنا الله تعالى لما فيه صلاح ديننا ودنيانا .

عبد الباسط شيخ إبراهيم

٦ شعبان ١٤٣٦هـ ، الموافق 2015/٥/24م

الدكتور عبد الباسط شيخ إبراهيم

ولد في دينسور في إقليم بأي ، ودرس الإبتدائية والاعدادية والثانوية في مدرسة 11 يناير في بيدوه، وحصل البكالوريوس والماجستير من الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، والدكتوراه من جامعة المدينة العالمية في ماليزيا تخصص التعليم والدعوة
زر الذهاب إلى الأعلى