توظيف النص الشرعي للخصومات

النصوص والأدلة الواردة في الكتاب والسنة ، سواء كانت أدلة قطعية الدلالة أو ظنية ، إنما أنزلت لهداية الناس وبيان الأحكام الشرعية بكل أنواعها ، أو الأحرى لعبادة الله تعالى وحده. ونصوص الوحيين من الكتاب والسنة يُتعبد بتلاوتها أو العمل بهما، ومهمة العلماء والدعاة فيهما هو تحبيب الناس إليهما ، وتعظيمها في قلوبهم ، والوقوف عندهما ، وعدم التجاوز في حدودهما .

وليس من الديانة والورع استخدام النصوص الشرعية وتوظيفها في الخصومات الشخصية أو الدفاع عن الأراء المجردة التي تنشب بين الناس جميعا سواء كانوا علماء أو عامة .

ولكن النفس البشرية مهما بلغت من الرصانة والعلم قد تحمل النفس الأمارة بالسوء في توظيف ما أعطي من علم أو منصب ديني المتمثل المنبر أو المسجد في توظيفه لإطفاء غليله لمن لا يوافقه في الرأي والمشرب أو يختلف معه في أمر عام أو خاص .

زار أحد طلبة العلم  في بلدة ، وكان فيها مسجد ، ويدعي القائمون عليه بمتابعة السنة ومنابذة البدعة، فطلب منهم السماح له بإلقاء كلمة، وقالوا له نستشير ونستأذن عن شيخنا ، فلما أُخبر الشيخ الأمر ، اعتذر عن تلبية هذا الطلب – لأن المستأذن وإن كان ينهج المنهج الدعوي الصحيح عامة ولكنه لا يرى بأسا في جواز الانضمام إلى الحركات الدعوية أوتأسيها ما دامت لا تخالف الأصول المقررة ، – ولكن الأمر لم  يتوقف عند هذا ، بل وظف الشيخ المفضال في خطبة الجمعة التالية – وكان الضيف الزائر من الخضور – في شرشرة من ينهجون هذا المنهج، وأورد الأدلة وأقوال أهل العلم المؤيدة لرأيه ، ضاربا عرض الحائط أهمية الخطبة ووظيفة المسجد والمنبر في عدم استخدامه في مناصرة أو معارضة رأي ما ، ما دام هذا الرأي  لا يتعارض مع قطعيات الدين وثوابته .

حصل بينه وبين صديقه خلاف أو تباين في  الرأي في مسألة ما ، فكل واحد منهما أعد العدة في فضح عوار رأي مخالفه ، ولكن المصيبة تكمن في استخدام أحدهما وتصدير كلامه الحديث القائل  ( .. وإذا خاصم فجر ) ، متهما خصمه بالفجور في الخصومة، ليبرر مقولته ، وليجعل النص في تقوية جانبه .

اختلفا في قبول أو ردِّ رأي أحد العلماء في أمر يتلق بالشأن العام الذي لا يجوز لأحد أن يحتكره، فلما لم يستطع إقناع صاحبه بتقبل قول شيخه كما هو ، بدأ يسرد النصوص الشرعية الدالة على فضل العلماء ومكانتهم بين الأمة ، محذرا إياه من مغبة الإزداء بهم ، فلما قال صاحبه بأنه لا يجادل في علم شيخه ، ولكنه لا يوافقه في رأيه هذا، فلما سمع هذا الكلام ، استل قول الله تعالى ( ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألدّ الخصام ) ، ليجعل النص الشرعي في جانب مناصرة رأي شيخه ، متناسيا بأن النصوص لم تنزل لأجل ذلك .

وبعض الشركات التجارية تستخدم بعض الشرعيين في تسويق مشروعها التجاري، وتدعوهم إلى مشاركة حفلاتها السنوية ، وتقدمهم أمام الجمهور ، ليدلي دلوه في تزكية عملها التجاري معتمدا على النصوص الدالة على فضل التجارة الصحيحة المبنية على أسس شرعية ، من غير أن يتأكد من صحة أعمالها ومؤاومتها لأصول التجارة المعتبرة شرعا مكتفيا بثقته على القائمين على المشروع .

وعندما يحصل شجار وخلاف بين الزوجين في أمر قد يبدوا تافها وحقيرا، ويعجز الزوج في حله ولملمته من دون جلبة وصياح ، يلجأ بعض الرجال إلى النصوص الشرعية مثل حديث ( ما رأيت ناقصات عقل ودين …. ) ، ليكون سيفا مسلطا على رقبة زوجته ، لينجو من عطبه وعجزه .

فتحدث أحدهم عن ظلم بعض الرؤساء والوزراء الذي لا تخطئه العين ، فما إن سمع جليسه حتى حذّره من مغبة التطاول على الولاة لأن ( من أكرم سلطان الله أكرمه الله ، ومن أهان سلطان الله أهانه الله ) .

فلما قيل إن الداعية الفلاني يتحفنا في كل وقت فتاوى متناقضة من غير مقدمات مقنعة ، قال أحد مؤيديه مهددا لصاحبه إياك أن تكون ممن يشملهم حديث ( مَن عادى لي وليًّا، فقد آذنتُه بالحرب).

والصحيح الذي لا جدال فيه أن النصوص الشرعية لم تنزل لهذا المسلك ، بل هي للتعبد وبيان الأحكام الشرعية وغير ذلك مما له علاقة بالدِّين ، لذا يجب على كل مسلم أن يتأدب بها وأن لا يقحم النصوص في متاهات جدلية لا طائل تحتها .

وفقني الله وإياكم لتعظيم حرمات الشرع والدين ، أمين .

الدكتور عبد الباسط شيخ إبراهيم

ولد في دينسور في إقليم بأي ، ودرس الإبتدائية والاعدادية والثانوية في مدرسة 11 يناير في بيدوه، وحصل البكالوريوس والماجستير من الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، والدكتوراه من جامعة المدينة العالمية في ماليزيا تخصص التعليم والدعوة
زر الذهاب إلى الأعلى