عباقرة لهم أصول في منقطة القرن الإفريقي (45)الشيخ عبد الرحمن بن أحمد الكدلي الزيلعي (5)

وقد عرفنا في ما مضى من أخبار الشيخ عبد الرحمن بن أحمد الزيلعي بأنّه طاف في داخل بلاد الصومال وخارجها بغية الحصول على من هو أعلم منه لينهل من علومهم وينال من رضاهم وإجازتهم في نشر ذلك العلم سواء في العلوم الشرعية أو اللغوية والأدبية التي برع فيها.  ولا أحد يشك من أنّ العلامة الشيخ الزيلعي كان مشهورا في أوساط أهل العلم في المنطقة ، ومن خلال تتبع مؤلفاته وأثره العلمي – التي سوف نتحدث عنها في الحلقة القادمة إن شاء الله – يتضح مدى قدرته العلمية وباعه الواسع في اللغة العربية وآدابها، ومن هنا-بسبب علمه وتدينه وإنتاجه التربوي والعلمي- هرول إليه مجموعات من طلبة العلم بغية النهل من علمه الفياض.

ولا أحد يجادل في مكانة الزيلعي العلمية إذ كان عالماً كبيراً بارزاً على أقرانه كرّس كل حياته لخدمة الدين والعلم والمعرفة، والدين والمجتمع. ويشهد له بذلك ما نجده اليوم من كتبه المخطوطة والمنشورة، وما ترك من ورائه من تراث أدبي ولغوي يستحوذ إعجاب المجتمع الصومالي من أقصى الشمال إلى الجنوب، ومن أقصى الشرق إلى أقصى الغرب. ولا يكن من الغرابة بأن استطاع الزيلعي أن يؤسس مجتمعاً أكاديمياً عظيماً، وبيئة علمية يسود فيها الجد والاجتهاد في طلب العلم والمعرفة، وتنتشر فيها المحبة والوئام، وتزول عنها الانتماءات القبلية والولاءات الإقليمية،  وتسيطر عليها الروحانية والعبادة حتى سمي عام وفاته (عام العبادة).

والحق أنّه لم تأت من فراغ تلك الألقاب والأوصاف التي أطلق عليه العلامة الزيلعي المعجبون به مثل : القطب الأجل، والإمام الأكمل ، والمرشد الأمثل ، والنحرير الأمجد، والبطل الشجاع الذي لا يخاف في الله لومة لائم غير ذلك من الألقاب والأوصاف، بليذكر بعض الباحثين مثل شريف علوي بأن هناك ألقابا وأوصافا له لا تعدّ  ولا تحصى. ومن هنا شدّ إليه الرحال مجموعة من طلبة العلم من كل حذب وصوب حتى تمكنوا من الجلوس أمام العالم المربي الزيلعي. ولعلّ أغلب هذه الألقاب برزت في الساحة بعد وفاته تقديراً لمسيرته العلمية، وحباً وتعظيماً لمكانته الدينية والروحية، ولم يكن يرضى على مثل هذه المبالغات والمغالاة ، بل ولا نجد في مؤلفاته بتاتاً بأنه ادعى أنه قطب الأولياء، وأنه الإمام الأكمل والمرشد الأمثل، بل نجده يقول وبكل تواضع عند تعريفه بنفسه: “عبد الرحمن ذو التقصير، عبد الرحمن الكسلان”. وخلال مسيرة حياته العلمية يحسّ القارئ من مؤلفاته بأنّ الرجل لم يكن يحب الظهور والاستعلاء بل كان يميل إلى التواضع ونقد الذات، والدليل على ذلك – كما يذكر شريف علوي – أنه دعا إلى نقد مؤلفاته، وارتجى أن يكون ذلك النقد بناءً، وبعيداً عن الاعتساف واتباع الهوى، وعن الخضوع لرغبات النفس الأمارة بالسوء.

ونشير هنا  فقط إلى بعض  طلاب الشيخ عبد الرحمن الزيلعي من أهل العلم الذين نهلوا من معينه الصافي ثم نبغوا في ميادين العلم والمعرفة في أوساط مجتمعاتهم ، لأنّه من الصعب حصر كل من نهل من علمه وتتلمذ على يديه لأنّ الزيلعي كان معلماً ومربياً في أكثر من مكان، بالإضافة إلي كونه قضى جل حياته في نشر العلم والمعرفة وتربية الاجيال على مائدة الإسلام على مذهب أهل السنة الجماعة، وأشار الباحث محمد عمر أحمد عند ترجمته اللطيفة بأنّ الشيخ الزيلعي تخرج على يديه مئات من العلماء البارزين في منطقة القرن الإفريقي ، ومع أن غالبية تلاميذه كانوا من سكان الصومال الغربي ، فإن الصوماليين المقيمين فى الأقاليم الأخرى أيضا لم يكونوا محرومين من علومه ومعارفه ، ومن الشخصيات الدينية البارزة الذين تخرجوا مدرسة الزيلعي وأنشاوا مركزا دينيا هاما فى المنطقة من هؤلاء العلماء:

الشيخ أبي بكر بن يوسف القطبي خليفة الزيلعي في قيادة الطريقة بالمركز الأم في قلنقول.

الشيخ محمد بن إسماعيل المعروف بالشيخ تمعدى الأجاديني.

الشيخ خليف آدم مصطفى الهوبي الفاتحي قائد الانتفاضة الإسلامية فى هرر وشهيد طغيان الحبشة .

والشيخ عبد الرحمن بن الشيخ أحمد جولى المعروف بأفجوطيي المجيرتينيّ ، نابغة الصومال .

والشيخ عبد السلام حاجي جامع القطبي المرشد الداعية أستاذ مدينة جكجكا.

الشيخ حسين فرّى النوحي الأبسغوليّ ، عالم الدين الشهير ، والمدرس المفيد .

والشيخ يوسف دبد بن أحمد الأغادينيّ الورفائي كبير أساتذة منطقة أجادين فى وقته .

والشيخ عبدي يوسف فارح الببان الأجادينيّ الجيراري الأمادنيّ أول من رحّب بالزيلعيّ في هرر .

والشيخ عبد الصمد حاجي بركالي أحد أركان الطريقة الزيلعية.

وهؤلاء العلماء الأفذاذ حملوا رسالة الإسلام في منطقة القرن الإفريقي وبالذات في الصومال الغربي، ونجحوا في رفع مكانة شيخهم الزيلعي وحفظ مدرسته وطريقته في تربية الأجيال، وهذا الأمر لم يأت من فراغ لأنّ شيخهم الزيلعي رباهم على تربية حسنة وكان له آراء قيمة، ودراسات جيدة في النفس الإنسانية؛ فهو يرى أن النفس البشرية بطبيعتها لا تخلو من بعض الحسد، ولكن النفوس الطيبة تملك القدرة على إخفائه بينما النفوس اللئيمة تبديه. وقد برهن شريف علوي على ذلك من أنّه اقتبس نتفاً من درر الزيلعي المنثورة في مؤلفاته مثل خاتمة كتاب “توضيح لباب المعاني / شرح حرز الأماني” وجاء على نحو التالي: “هذا آخر الشرح الذي هو من عظائم الفتح؛ فدونكم شرحاً حوى نفائس الدرر، وجمع، بفضل الله المحض، كثيراً من عرائس المسائل الغرر. نفعني الله به  والمسلمين، وجعله ملجأ وعمدة للأفاضل المعتبرين، وحماه من عين كل حسود ينظر إليه بعين الاحتقار، وينكر ما فيه من الخبايا الطيبة،والفوائد الجمة؛ لما قام عنده من الحقد والضغن قائلاً: إنما هو (الكتاب) مجموع كلام من تقدم، أو تأخر من الأعيان والأخيار؛ لعدم درايته بأن هذا هو من شأنه قديماً وحديثاً؛ فهو من قوم يتبعون النفس الأمارة بالسوء، فمعاذ الله من قوم لا يكادون يفقهون حديثاً؛ فهل يعقل أن يكون كرم ربنا الرحمن الرحيم مقيداً بمتقدم أو متأخر، أو صغير أو كبير أو عظيم؟ إذ أن الله يختص برحمته من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.

ويبدوا أنّ الزيلعي أحسّ بأنّ هناك من يناوؤه ويعارضه حقدا وحسدا ، وأشار ذلك في مقدمة احدى كتبه “توضيح لباب المعاني” حيث قال: “وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في ذاته وصفاته وأفعاله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي اختاره ليكون آخر رسله وخاتم أنبيائه، وجعل اللغة العربية وعاء وحيه، ولسان مقاله، ومأمولي من الناظر فيه أن ينظر إليه (الكتاب) بعين الصدق والصفاء، ولا ينظر إليه بعين الحقد والحسد؛ فإن الحسد لا يخلو منه الجسد البشري، ولكن الكريم يخفيه، واللئيم يبديه.  اللهم أعصمنا من نفث حاقد إذا حقد، ومن شر حاسد إذا حسد”.

ويتضح لنا مما سبق بأنّ للزيلعي محبون ومعجبون، كما أن له مناوئين ومعادين؛ ولا غرابة في ذلك؛ فما اختلف الناس في العادة إلا في العظماء، أصحاب التأثير في تطوير المجتمعات، وتحقيق احتياجاتها الروحية والثقافية والاجتماعية. ويقال إنّ بعض أقرانه من العلماء لم يعجبوبنشاط الزيلعي ونبوغهالعلمي عند ما قدم على مدينة هرر ، ولكن هذا الأمر لم يكن يتضايق به الزيلعي كثيراً لأنّه جرب أكثر من ذلك في مسقط رأسه بين ذويه وعشيرته وعلماء منطقته ، حيث بالغ المعادون له في سوء تقديره وتقويمه؛ ففسخوا زوجته الأولى أثناء غيابه لطلب العلم في مقديشو؛ لأنه في رأيهم شخص غير متزن، وأنه لذلك لا يراعي حقوق الأسرة، ولا يقدر المسئولية الزوجية، وعاداه العلماء في مدينة هرر غيرة وحسداً على ما رأوه من التفاف المجتمع الهرري حوله، وحول مؤلفاته اللغوية والأدبية.

ولكن بعض ما قرره الشيخ الزيلعي من الانتقال إلى مدينة جكجكا خفّ الحسد والحقد عليه من أقرانه، وكذا عندما أسس “قلنقول” أصبح الميدان خالياً له، وصار الشيخ الأوحد والقائد الأمثل ، فأحب الناس حوله وعظموا منزلته حتى غالى بعضهم في تمجيد شيخهم ومربيهم، وأطلقوا عليه ألقاباً مختلفةً تدل على حبهم وولائهم لشيخهم الزيلعي كما ذكر ذلك شريف علوي الذي تتبع أثناء تحقيقه لكتاب الزيلعي “حديقة التصريف” مواقف محبي الزيلعي ومعاديه،ثم استنتج قائلاً: “ونرى أن الاثنين كليهما قد أجحفا في حق هذا العالم، وبالغا في سوء تقديره وتقويمه؛ فليس هناك في رأييهما أي اعتبار لمواهبه المتعددة في الشعر والنثر، وفي التأليف والكتابة، وفي قدراته العجيبة في تأسيس المستوطنات العلمية، والمجتمعات الأكاديمية التي ساهمت في نشر العلم والمعرفة، وفي خدمة الدين واللغة العربية في ربوع شبه الجزيرة الصومالية، وفي ربوع البلاد المجاورة لها في القرن الإفريقي!”

وقد سجلت المصادر التاريخية نموذجاً من أهل الحقد والحسد الذين وقفوا على وجه العظماء والقادة الكبارحسداً وحقداً بحيث لم تعجب هؤلاء نبوغ أهل الفضل والتفوق،وما حصل مع العلامة الزيلعي ليس إلا من هذا القبيل، غير أنني لم أقف على من أشار إلى أنّ الزيلعي قام بدوره بردة فعلتجاه تصرفات من قام ضده سواء عندما كان في منطقته بين أهله وقبيلته في بكول، أو عندما انتقل في هرر ، وخلال تتبعيلأخباره لم أجد منه حتى مجرد الدفاع عن النفس أو التبرأة عما ألصق به إلا عندما أصبح الأمر له علاقة بإنتاجه العلمي ومقدرته اللغوية ، فلم يكن جوابه مجرد الأقوال والمتاهات إنما جاء رده قويا ومفحماً عبر كتابة علمية ،عندما قام بشرح كتابه “حديقة التصريف”.

وتأثر الزيلعي بحياة الزهد والتصوف، وسلك طريق الزهاد الذين زهدوا عن حياة الدنيا وملذاتها، بحيث مال إلى حياة التقشف والزهد العفيف، لاسيما أنّه انضم إلى جملة المتصوفين عبر الطريقة القادرية، ولعله أخذ هذا الطريق في فترة شبابه من مجالس العلم في مدينة مقديشو خلال رحلته العلمية وخاصة عندما جاور صديقه ورفيق دربه فضيلة الشيخ عبد الرحمن بن عبد الله الشاشي المقدشي المشهور بحاجي صوفي، لأنّه كما أشرنا سابقاً سكن الزيلعي مع حاجي صوفي الذي أخذ الطريقة القادرية بعد تردد. ويقال بأنّ الشيخ الزيلعي أخذ الطريقة القادرية عندما كان في مقديشو ولكن عن طريق أحد الشيوخ، وهو الشيخ إسماعيل المقدشي، ولعل ذلك القول أقوى من سابقه، لأنّ الزيلعي رافق الشيخ إسماعيل المقدشي مدة بعيداً عن المدن والحضر،وجال معه في القرى والأرياف في داخل بلاد الصومال – كما أشرنا من قبل –  عند حديثنا عن أخبار رحلة الزيلعي العلمية في داخل الصومال. ومهما كان، فإنّ لقاء الزيلعي بالشيخ إسماعيل المقديشي كانت بدايات حياة التصوف والزهد، ومنطلق مسلك  الصالحين العارفين ، كما التزم الزيلعي وصية شيخه الذي أوصى له بزيارة الحرمين ، والاجتماع بعلماء الحجاز قبل التصدي للإرشاد، وفعلاً رحل الزيلعي إلى الحجاز واجتمع بعلماء الحرمين الشريفين مثل الشيخ إبراهيم الرشيد خليفة السيد أحمد بن إدريس الفاسي، ومفتي دار الحرمين في وقته الشيخ احمد بن زيني دحلان الشافعي والسيد فضل العلوي شيخ القادرية فى الحجاز ، والحاج القطبي المجاور بالحرمين، وهذا دليل على أنّ الشيخ إسماعيل المقديشي كان له علاقة مع هؤلاء علماء الحجاز المتصوفة.

 

 

د/ محمد حسين معلم علي

من مواليد مدينة مقديشو عام 1964، أكمل تعليمه في الصومال، ثم رحل إلي المملكة العربية السعودية ليواصل رحلته العلمية حيث التحق بجامعة أم القرى قسم التاريخ الإسلامي حيث تخرج في عام 1991م، ونال الماجستير بنفس الجامعة في عام 1998م ،كما واصل دراسته في كل من السودان والنرويج، حيث نال درجة الدكتوراة بجامعة النيلين عام 2006م، أما في مملكة النرويج فقد تخصص بالدراسات التربوية وكذا الثقافات واللغات المتعددة في جامعة همر بالنرويج. وعمل أستاد التاريخ والحضارة الإسلامية في الجامعة الإسلامية في مقديشو - الصومال، وهو عضو في عدد من المنظمات المحلية والإقليمية والدولية، أصدر "ديوان الشاعر بعدلي" عام 2002م ، و"الثقافة العربية وروّادها في الصومال" عام 2010م، وله عدة بحوث أخرى، يقيم الآن بالنرويج .
زر الذهاب إلى الأعلى