السلطان يوسف علي ومنطقة مجريتنيا…الحلم الذي كاد أن يتحقق (9-10)

نفي السلطان يوسف إلى إريتريا والحملة البريطانية الثالثة ضد الدراويش

وجدت انتصارات السيد محمد عبدالله حسن   المتتالية على بريطانيا تفاعلا كبيرا في أوساط الصوماليين وصدى لدى جميع قبائل الصومال وأصبحت محل استلهام المناوئين والمقاومين للمستعمر الإيطالي في الجنوب، وذاع صيته واتسعت دائرة الانبهار والتعاطف معه بين القبائل الصومالية وراي أبناء القبائل في السيد تجسيدا لمعاني الرجولة والشجاعة وقد زرعت أشعاره وقصائده فيهم الحماسة، وفي قلوب بعضهم الخوف والرعب  وكذلك نالت إعجاب الكثيرين من أبناء القبائل في الشرق والغرب لا سيما أوغادين  باعتبارها من أهم طرق إمداده البشري و محل آبائه وأجداده  حيث وشائج القربى تلعب دورا مهما في نصرته و إمداده بالمال والرجال. وكذلك مجيرتينيا  عمقه الاستراتيجي الذي يأتي عبر منافذها البحرية  السلاح والذخيرة وملجأه في وقت الشدائد خاصة أثناء ملاحقة بريطانيا له. احتارت بريطانيا إزاء هذه الشعبية المتزايدة للسيد وأن أعداد المنضمين إليه في ازدياد مطرد، وفوجئت أيضا بعلاقته المميزة بسلطان مجيرتينا رغم كل محاولاتها لتعكيرها، وتوسُّعه نحو القبائل المتاخمة لحدود بريطانيا الجنوبية والأخطار الذي سيشكله عليها وعلى رعاياها  وأن تصبح كذلك هذه القبائل  بيئة حاضنة وملاذا آمنا في حال الهزيمة ويستطيع من هناك تجميع قواه والانطلاق من جديد نحو مناطقها. وبالفعل بعد فشل الحملة البريطانية الثانية في اريغو ٦ أكتوبر ١٩٠٢ التى تعتبر أكبر هزيمة تتلقاها بريطانيا من السيد منذ بداية حملاتها القتالية ضده غدت جميع مناطق هود تحت سيطرة السيد بفضل الدعم الذي يتلقاه من مجيرتينا سواء أكان دعما  لوجستيا أم معنويا. وفي ذروة الحملة البريطانية الثانية عليه،  وجه السيد محمد عبد الله حسن ضربة قوية على سلطنة هبيو حيث توغل في مدغ واستولى على غالكعيو وهدم قلعتها ولحق هزيمة ساحقة  برجال يوسف وقتل منهم حوالي مائة رجل وغنم أسلحة وذخيرة ومآت من المواشي  واجبر الباقيين الانضمام إليه. ووصلت طلائع قواته على بعد أميال قليلة من هبيو عاصمة سلطنة هوبيو. وبنفس الوقت استطاع السيد إجهاض الحملة البريطانية واحتوائها على حدود المحمية البريطانية. دفعت هذه الانتصارات كثير من أبناء القبائل في جنوب وغرب المدغ الانضمام الى السيد وساهمت في زيادة شعبيته وهيبته في أوساط الصوماليين وملئت الخوف والرعب في قلوب أعدائه. وعلى إثر هذه الوقائع تولدت في أوساط البريطانيين فكرة استخدام هبيو كقاعدة انطلاق للهجوم على السيد بإنزال كتيبة من الجنود وفتح جبهة ثالثة من الجنوب، ولكن إنزال الجنود والهجوم من هبيو يحتاج بإذن وتنسيق من الإيطاليين.  تقدمت بريطانيا طلبا لإيطاليا والحبشة تدعوهم بالمشاركة في الحملة العسكرية البريطانية الثالثة لتطويق السيد من كل الجهات بغية إمساكه أو إجباره على الاستسلام، وتقضي الخطة إلى  أن تهاجم بريطانيا من الشمال والحبشة من الغرب وإيطاليا وسلطنة هبيو من الجنوب، وإنهاء التمرد وطى صفحة السيد وحركته إلى الأبد.

وفي ١٠ أبريل ١٩٠٢ أبلغت إيطاليا البريطانيين عبر سفيرها في لندن  موافقتها المشاركة  في العملية المشتركة غير أن خطة العملية للحملة لا تتطابق بشكل واضح مع الطلب أو المقترح المقدمة من قبل البريطانيين. في الحقيقة البريطانيون ليسوا فقط يريدون من إيطاليا حرية التنقل في ملاحقة السيد داخل مناطق نفوذها ولكنهم يرغبون كذلك إشراك سلطان هبيو في العملية مستغلين التنافس بينه وبين غريمه وخصمه السلطان عثمان محمود المتعاطف مع السيد وعداوة الأخير بسلطان هبيو بحيث يأتي يوسف من الجنوب ويصد الدراويش عن الطريق ويمنعهم من التقدم نحو الجنوب، لكن الإيطاليين امتنعوا الموافقة على النقطة الأخيرة المتعلقة بإشراك السلطان يوسف على كينديد معللين بعدم ثقتهم بالسلطان يوسف واحتمالية توظيف يوسف بهذه المهمة في تحقيق أطماعه التوسعية ومطالبة بسيادته على جميع الشرق والذي من شأنه أن يخلق أو أن يسبب إلى مزيد من التوتر وعدم الاستقرار في المنطقة. وأخيرا وافقت إيطاليا على طلب بريطانيا باستخدام ميناء هبيو وان يوفر السلطان يوسف الدعم اللوجستية أما إيطاليا سوف يقتصر مشاركتها في الحملة فقط على  الإسناد والدعم البحري  يعني مراقبة ومنع تهريب السلاح والذخيرة وإمكانية قصف القرى الساحلية للترهيب إذا اقتضت الضرورة، وكذلك أبدت استعدادها مشاركة ضباط ارتباط إيطاليين برفقة الحملة  بصفة مستشارين ومراقبين، وتسهيل تبادل المعلومات والتنسيق لتفادي سوء التفاهم مع القبائل المجيرتينة، لكن بشرط أن لا تدفع الحملة البريطانية السيد نحو الجنوب(بنادر) حال هزيمته، وان لا تسبب التوغل البريطانية لإيطاليا فقدان أي من أراضيها (أراضي تحت نفوذها)، وإظهار لرأي العام الصومالي أن إيطاليا غير مشاركة في قتال السيد، وأن تبقي الحملة بريطانية خالصة. إيطاليا لها هدف محدد وواضح من الحملة البريطانية الثالثة كما يقول الكاتب  F.GRASSO  “في وجهة نظر الإيطاليين أن الحدَّ  من انتشار لهيب نار انتفاضة السيد ومنع وصوله إلى بنادر، هو أولى أولوياتهم، ومسؤولية انهاء او قمع تمرد السيد وحدِّه من الانتشار يقع على عاتق البريطانيين.  وفي نظر الصوماليين   أن الحرب ضد السيد شنته بريطانيا وحدها أصبح تدريجيا أقل تصديقا. انتهى”. G.NICOLOSI  P 53

  إيطاليا ومنذ بداية ثورة السيد محمد عبد الله حسن في الشمال حاولت الحيلولة دون حدوث اتصال مباشر بين السيد والقبائل الجنوبية المنتفضة ضدها أو نزول السيد نفسه وانتقاله إلى  بنادر في حال خسارته الحرب في الشمال ، وأكثر ما  كانت تخشاه وتتوخّاه    هو حصول قبائل بنادر المناوئين لها أسلحة نارية مثل قبيلة بيمال في مركة والالتحام المباشر بين قضية تمرد بنادر مع قضية السيد والدراويش. هناك شيء واضح ومؤكد  لدى إيطاليا وهو  ضرورة منع توسع دائرة تأثير انتفاضة السيد على القبائل وانتقالها إلى الجنوب بأي وسيلة. غازلت إيطاليا السيد عبر حاكم بنادر دوليو وكذلك السيد نفسه لم يرغب فتح جبهة أخرى مع إيطاليا كي لا يقع بين فكي كماشة على الأقل رغب السيد إبقاء إيطاليا محايدة . وقد تبادل الطرفان عدة رسائل حول القضايا ذات الصلة بمناطق النفوذ ومحمياتها  وابدى السيد رغبته في الحصول على منفذ بحري حر في مناطق نفوذها وإعجابه بإدارتها في بنادر وعدم تدخلها في الشؤون الدينية لرعاياها(حسب كلام الإيطاليين). لكن خلافه مع سلطنتي مجيرتينا وهبيو حول الحدود  خلق شيئا من التعقيد في ديمومة “العلاقة الودية” بينهما  وقد حاولت إيطاليا جعل سلطنتي مجيرتيناوهبيو حائلا  بين مناطق نفوذها وبين السيد محمد عبدالله حسن الذي أصبح كابوسا للقوى الاستعمارية (بريطانيا-إيطاليا-الحبشة). بعد انتهاء التحضيرات والاستعدادات وحل جميع القضايا الخلافية بين الإيطاليين والبريطانيين بشأن إنزال القوات البريطانية في هبيو والتأكد من مشاركة الأحباش في الحملة. في بداية ديسمبر التقى قائد القوات المسلحة الإيطالية بنظيره البريطاني في روما لوضع اللمسات الاخيرة في الخطة، وفي أواخر ديسمبر ١٩٠٢ وصلت حاملة الجنود البريطانية هيداري مشفوعة بالسفينة الحربية Pomon إلى ميناء هبيو وبالتوازي أرست السفينة الحربية الايطالية فلتورنو بقيادة الكابتن فينزي اوغانييو  أمام ميناء هبيو لمساعدة البريطانيين. وفي بداية العام ١٩٠٣ بدأ البريطانيون إنزال الجنود من ميناء هبيو. لقي البريطانيون صعوبات في عملية إنزال الجنود والمعدات والمؤن  والحيوانات نتيجة سوء أحوال الطقس وهبوب الرياح، وعدم تعاون السلطان يوسف الكامل وغير الصادق  بل حاول يوسف ابطائها وربما أراد إفشالها  لعدة أسباب أهمها: أولا شكوكه إمكانية هزيمة السيد وثانيا خوفه من تبعات العملية في حال فشلها وانتصار السيد على البريطانيين نظرا لتجاربه السابقة مع حملات البريطانية السابقة حيث اكتوى بنار السيد، وما زالت دماء رجاله في غالكعيو على يد رجال السيد لم تجف بعد وجراحهم لم يضمد، وكذلك غطرسة البريطانيين وتعاملهم الفوقية جعلت يوسف ينزعج ويضجر منهم ويتثاقل في تقديم التسهيلات اللوجستية اللازمة لتسريع عملية الإنزال وتجهيز الحملة للغزو. وقد سحب يوسف جميع مواد الغذائية وحطب الوقود والحيوانات من السوق والغي السوق المفتوح وأمر الناس أن لا يبيعوا للبريطانيين الا من خلاله، وليس واضحا سبب إقدام يوسف بهذا الفعل هل هو بسبب الجشع وحب الربح أو هو مقايضة للبريطانيين وانتقاما منهم بسبب نزولهم إلى أرضه مجبرا غير مخير. وفي هذا المضمار(تصرفات يوسف على) يقول الجنرال W.E Manning قائد الحملة البريطانية الثالثة والمشرف على عملية الإنزال في رسالة إلى سكرتير الحكومة الإنجليزية في ١٠ يناير ١٩٠٣. “اللباقة والصبر ضروريان في التعامل مع يوسف.  حتى الآن تسير الأمور بسلاسة وبما اننا في يديه نظرا لحاجتنا في إمدادات اللحوم وحطب الوقود، وهذا ضروري بالنسبة لنا. ومع ذلك يتم فرض أسعارا باهظة على هذه السلع. وأعطى يوسف أوامره بأن تمر جميع الإمدادات من خلاله وأن لا يكون هناك أسواق مفتوحة ومع ذلك الإمدادات كافية لمتطلباتنا ولذلك لم اعترض على هذا الترتيب”.  انتهى G.nicolosi p 60.

 وسرعان ما أدركت بريطانيا عدم جدية يوسف وسوء نيته، وأن دعاة السيد تمكنوا في انخراط داخل السلطنة يبثون دعوة السيد وطريقته ويشيعون بين الناس انتصارات السيد وكراماته وقدراته في إلحاق الهزيمة بالافرنجيين. واشتكى البريطانيون من سلوك السلطان المريب والأسعار الباهظة لسلع والجمال للنقل ولحمل الأثقال، في الحقيقة  السلطان  كان يطالب السلاح للدفاع عن النفس ويذكِّر  بأن بعد الحملات البريطانية السابقة الفاشلة تعرض هجمات السيد من الخلف واستولي منطقة مذغ وقتل حوالى مئتي عسكري ونهب المواشي، ويريد تعويضات لكل الأضرار التي لحقته من جراء حملات بريطانيا السابقة وفورا وكذلك ضمانات في الأضرار المستقبلية  ويرجع سبب انزعاج يوسف من بريطانيا إلى اعتقاده بأن الحرب البريطانية تجلب الحرب في قلب سلطنة. واتهم البريطانيون السلطان يوسف بالتعاطف مع السيد. ويعتقد قائد البريطانية جنرال مينغ أن توجه يوسف يعكس الحس العام لدى غالبية مواطنيه وربما هى نتيجة تأثير انتصارات السيد والمكانة  والهيبة الكبيرة التي يتمتع بها السيد محمد عبدالله حسن واعتقادهم بأنه لا يقهر، وأنه لا جدوى في تأييد قضية خاسرة قبل أن تبدأ. وفي النهاية أقررت بريطانيا إزاحة السلطان يوسف عن السلطة وأبعاده إلى الخارج بتنسيق مع إيطاليا.

يتبع….

خالد إبراهيم

باحث في تاريخ الصومال
زر الذهاب إلى الأعلى