إشكاليّة الانتماء والتعدد اللغوي في الصومال

من أكثر المظاهر التي تعكس تنكر هذا المجتمع لواقعه وخوفه من مواجهته ما درج عليه الصوماليون في معرض الفخر البريء أو مناسبات إبداء عدم مبرر لحالة التناحر والاقتتال القائمة في البلاد من تداول ادعاء التميز بنمط فريد من الوحدة العرقيّة والثقافيّة واللغويّة والطائفيّة والمذهبيّة ، بمعنى أنّ الجميع ينحدر من عرقيّة واحدة هي الصومال، ويدين بالإسلام بنسبة مائة بالمائة، وفق الطائفة السنّيّة وعلى المذهب الشافعيّ، ويتحدّث لغة واحدة هي اللغة الصّوماليّة، وتغيب فروقات الأشكال الخلقيّة في اللون وملامح الوجه والأنف والشفتين وأنواع الشعر وغيرها من الخصائص الخلقية التي تميز السلالات البشريّة المختلفة عادة ، فهم يكادون يتخذون نفس الشكل. كما تتضاءل الاختلافات الثقافية بينه على امتداد رقعة انتشاره الجغرافيّة الشاسعة في  أساليب الحياة والعادات والتقاليد والفنون والآداب والصناعات التقليدية، فما يوجد من هذه العناصر في منطقة من المناطق الصوماليّة يوجد في سائر المناطق بذات الشكل والمضمون.  فما واقع هذا الادّعاء؟ وما الطريقة المثلى لمواجهة هذا التناقض؟

فكرة هذا الادعاء ليست صفرا من رصيد لها من الواقع تقوم عليه، وحديثها أنسب حديث وأجمله في موطن الفخر الوطني العاطفي وفي موقف الحث على رأب الصدع وإصلاح ذات البين والتنفير من الاقتتال بين الإخوة الذين لا يوجد بينهم اختلاف يبرره.

ولكن إذا كانت الأشياء تقوّم بنتائجها فإنّ هذه الوحدة التي يصوّرها الصوماليّ كنموذج فريد حبا الله به الأمّة الصوماليّة واختصّها به من بين الأمم لم تعد لها نتائج عمليّة بحجم صدى الفخر والتبجح بها في حياة الصوماليّ ، ولم تثمر – كما كان المفروض والمرجوّ – وفاقاً وانسجاما واستقرارا ونظاماً في واقعنا؟ ولم تؤدّ إلى الحيلولة دون استنساخ صور رهيبة من الانقسام والصراعات المعروفة في البيئات متعددة الثقافات والاختلافات؛ إذ المشاهد على أرض السلوك والممارسة يناقض جانبًا كبيرا من الفكرة، ويبرز وجها كالحا من سحنات الكراهية والتباغض والاختلاف والتمايز المتغلغلة في عمق المجتمع الصومالي، بحيث لم تعد حتى الوحدة الدينية والمذهبيّة استثناء من هذه المناقضة، فمع النسبة الكبيرة لصدقيّة هذه الوحدة إلاّ أن التمايز والانقسام إلى تيارات واتجاهات مختلفة على أساس وجهات نظر ضيقة عاقت دون ترجمتها إلى انسجام ووئام واشتراك عمل بين متصدري العمل الدعوي والديني، فالساحة الصوماليّة مليئة بتيّارات وتوجهات حركيّة بمسمياتها المتقاطعة المتدابرة، ولا يتوافر بينها الحدّ الأدنى من التواصل والتنسيق والتعاون الذي يتطلبه العمل المشترك في مجال الدعوة والتوجيه الديني ، ولا أمل في ذلك، بل الأمر بينها في غاية الحساسيّة، مرشح للاستثارة بأتفه مساس أو مقاربة طرف ما لتخوم المحميّات الفكرية للطرف الآخر في مناسبة من المناسبات، لذلك صار سمة العمل الدعوي لدى الكلّ تجنب الاحتكاك مع الآخر وشطبه وتجاهل وجوده، والتقوقع على الذات، وحركة كلّ أحاديًّا في كوكبه الخاص، فلكل تيّار مساجده ومؤسساته التعليميّة والاقتصاديّة والخدماتية الصحيّة والإغاثيّة التي لا تتداخل أوتتواصل مع نظيراتها عند الآخر، محددة القوى العاملة المسيرة لها والفئات المستفيدة منها حسب الانتماء الفكري، بحيث لاتكون المساهمة فيها أو الاستفادة منها متاحة إلاّ لمن يتمتع بالعضويّة في التيّار أو عرف بعدم صلته بالعمل الدعوي أوبانعزاله وحياده عن كل التيّارات. في تنافريّة أشبه بوضع شركات القطاع الخاص المحدودة المتنافسة، ولسنا مضطرّين هنا أن نورد نماذج حيّة من الواقع لهذا الصنف من المؤسسات، فهي معروفة للمجتمع الصومالي غير خافية عليه مهما ادعت الانفتاح وتصنعت التسامح مع الآخر للتمويه، مع استثنائنا من هذا التعميم بعض التنظيمات أومنسوبيها من الأفراد الذين يعكسون درجة عالية أو درجة لا بأس بها من الانفتاح والتعاون مع الجميع، ونرجو أن يكون ذلك بادرة إزالة الحواجز المصطنعة بين شركاء العمل الدعوي والديني.

فيما عدا ذلك صار هذا التخالص دأب العمل الدعوي ، لا صلة لبعض تياراته بالبعض الآخر ، ولا يجري بينها أي نوع من التلاقح أو تبادل الخبرات ، بل كلّ منها يتربّص برفاقه الإخفاقات والمآزق، مما لا يتناسب مع الحاجة الماسّة بمثل هذا العمل الربانيّ التطوّعي إلي التعاون وارتباط نجاحه بذلك، ولا يليق به أسلوب الشركات التجاريّة المتنافسة، ولا يفي بالحاجة إزاء العديد من القضايا والمشكلات والحالات التي تعتلج في مجتمعنا على أصعدة الحياة المختلفة، وينتظر الرأي الدّيني الموحّد تجاهها من هذه التيارات. والأمر يصبح أكثر هجنة حين تمتدّ هذه القطيعة لتنسحب على علاقات الأفراد أيضاً فيوعز للأفراد المنتسبين أو يدفعون دفعاً نحو تحجيم علاقاتهم الشخصيّة أو تفتيرها وتخفيض محموميتها مع الأفراد الذين لا ينتمون لنفس التنظيم، ويحتفظون معهم بصداقات واحتكاكات وحوارات وأنواع تواصل وتداخل متكونة بصورة طبيعية في أزمان سابقة على زمن الانضمام من خلال ظروف الجوار والرفقة والمعرفة القديمة والزمالة ونحو ذلك من الظروف الاعتيادية لنشوء العلاقات. ولصحّة هذه المقولة نستطيع أن نعيد البحث في علاقات صداقة لنا مع أشخاص ضاعت أو فترت لأسباب غير واضحة وسيتبين لنا أنّ هذه الخلفيّة كانت هي التي دفعت معظمها بهذا الاتجاه.

أمّا الوحدة العرقيّة فعلى فرض التسليم بصحتها فإنّنا لم يعوزنا تفريع الأصل الواحد إلى قبائل تنتظمها العداوة والكراهية والأزمات والصراعات المستحكمة، ولنا أن نستحضر هنا أيضا القبائل التي تتعرض للنبذ والتمييز لأسباب ذات صلة بالأساطير والخرافة والمهن التي يمتهنونها، وكذلك الظلم المقنن إيقاعه على أكثر القبائل في صيغة قسمة السلطة والنفوذ على أربعة ونصف، والتي تقضي بقسمة الحقوق والسلطات على أربع قبائل تضم ما لا يتجاوز النصف القويّ من الشعب الذي منه حملة السلاح بصفة قبليّة، ونصف قبيلة تضمّ ما لا يقل عن النصف الآخر الأعزل الذي لم يحمل السلاح بصفة قبلية. ناهيك بما تنطوي عليه هذه الدعوى من التجاهل والجحد بوجود فئات واسعة من المجتمع تؤكّد على اختلافها العرقي وانتمائها إلى أعراق خاصة بها كالبانتو، والبروانيين اللذين يرجعون انتماءهم إلى أصول أفريقية أصيلة أو أوروبيّة بدل الانتماء العربيّ الذي تقوم الدعوى على اتّحاد الأصول الصوماليّة فيه، وهذا داخل في ألوان الظلم أيضا.

ومثل ذلك يقال فيما يخص الوحدة اللغويّة؛ حيث يتمّ الحديث عن هذه الوحدة مع العلم بوجود أشكال لغويّة متعددة تنتشر لدى الصوماليين، لكن يتم تلطيف وقع ذلك من خلال آليّة نفسية تقدّم تطميناً بأنّ هذه الأشكال اللغويّة المتعددة ليست من النوع الدال على تعدد لغوي، وإنما هي اللغة الواحدة ولهجاتها، حيث صار ذلك اعتقاد الجميع إزاء الأشكال اللغوية المتعدّدة في البلاد من أنها لا تخرج عن عباءة اللغة الواحدة ولهجاتها، بينما هذا التفسير في حقيقة الأمر ينطلق عن عاطفة مجردة ولا يعتمد على أساس علميّ، فالمعروف أنّ هذه الأشكال اللغوية تتباعد أحيانا بما يعوق التواصل والتفاهم بين متحدثيها، وهو الخط الذي وضعه علماء اللسانيات في حدود اللغة واللهجة بأن ما يصل اختلافه من الأنماط اللغوية إلى درجة تجعل الفهم والتواصل بين المتحدثين متعذرًا أو متعسّرا يعدّ لغات متباينة ومنفصلة لا رابط بينها إلا احتمال الانتماء إلى أسرة لغويّة واحدة، ولكن ما لا يصل منها إلى درجة تعذر التواصل يعدّ لهجات للغة واحدة. وعلى هذا فإن في الصومال بنظر علم اللغة الحديث تعددا لغويّا، فالمحاتري (maxaatiri) – التي تمثل الشكل اللغوي الأكثر انتشاراً، ويتحدّثه معظم الصوماليين في شمال وجنوب وشرق وغرب جمهورية الصومال، وفي جيبوتي وفي المقاطعات الصوماليّة الواقعة تحت إدارة إثيوبيا، والمناطق الصومالية الأخرى الواقعة تحت إدارة كينيا – لغة مستقلّة، والماي ( maay ) التي تمثل الشكل اللغوي الثاني من حيث الانتشار، ويعدّ ﺳﻛّﺎن أﻗﺎﻟﯾم ﺟﻧوب ﻏرب اﻟﺻوﻣﺎل ھم اﻟﻣﺗﺣدﺛﯾن اﻷﺻﻠﯾﯾن بها، والذين لهم انتشار كبير في العاصمة مقدشو بحكم اتصالها المباشر بهذه المنطقة من جهة محافظة شبيلي السفلى. كما أنّ لهم امتدادات محدودة إلى المناطق الصومالية الداخلة في إدارة إثيوبيا وكينيا – هذا الشكل أيضا لغة مستقلّة، وكذلك الأشكال اللغوية عند قبائل الجيدو ( jiido ) والدبرّي (dabarre) والبراويين (baraawe) والجرّي ) garre ) والتُنّي ( tunni) وأشكال أخرى أقل انتشاراً، كلّها لغات مستقلّة لكون التواصل بين متحدّثي اثنتين منها صعباً أو متعذّرا. وعلى هذه الخلفية العلميّة كان ذهاب البرفسور محمد مختار إلى أنّ كلاًّ من الشكلين اللغويّين (ماي ومحاتري) في البلاد يعدّ لغة مستقلة بذاتها، وليسا لهجتين للغة واحدة كما يسود الاعتقاد بين عامّة المجتمع الصومالي. ولعلّ الاهتمام المتزايد مؤخرًا بالماي لدى مواطني أقاليم جنوب غرب الصومال نوع من التظلّم مما يعتقدونه تعاملا بالإهمال تعرّضت له لغتهم من الأنظمة السابقة طيلة الفترة الماضية، وإرهاصات لحرب  ثقافيّة قادمة تنتظر فقط ريثما تضع الحرب القبليّة أوزاها وتفسح لها المجال، ما لم تتخذ التدابير اللازمة لتفاديها، بتكريس الاعتراف بالخصوصيات الثقافية لمكوّنات المجتمع الصومالي والمصالحة فيما بينها.

وهكذا في كلّ ناحية يشيع الحديث عن الوحدة يوجد الكثير من النقيض المسكوت عنه والمتستر عليه، وهذا سلوك يجد مرجعيته في نظر المجتمع إلى الاختلاف والتنوع كمظهر اجتماعيّ غير صحّيّ يشكّل عاملا إضافيًّا من عوامل الانقسام والتمزق، وعدم الإمكانات الصحّيّة الصحيحة لتوجيهه مكّن الخوف منه في النفوس، ويدفع نحو جحد هذا الاختلاف تهرّبا من التبعات الضارّة المترتبة عنه بوصفه بابا من أبواب الجحيم في مجتمع ليس في موسوعة ثقافته عن الاختلاف إلا أضراره، ولا عن أساليب التعاطي معه إلا المواجهة والتطرّف، وتقديس الأنا وتنجيس الآخر وشيطنته. 

وإذا كان الواقع يكذب تلك الوحدة المتوهمة والمزعومة ويثبت وجود الاختلاف فليست استراتيجيّة التنكّر للواقع والركون إلى إطلاق ادعاءات الوحدة، والسكوت عن التفاصيل ومداراة الأزقة التي تختبئ فيها العفاريت مجدية في احتواء داء التفتت والتمزق الذي يدبّ في جسد الأمّة، وإنما من شأن ذلك أن يفسح الأمد لاستفحال الداء، فتجاهل الإصابة بالسّلّ وادّعاء الصحّة لا يوقف تطوّره. بل إنّ ذلك الوضع  يستدعي اتّخاذ مسلك آخر من شأنه تعزيز جانب الوحدة والحفاظ عليه وتوجيه تفاصيل التنوع والاختلاف نحو صالح نمو الأمّة وارتقائها ، وذلك بالتحلّي بالشجاعة الكافية للاعتراف أولا بوجود الاختلاف أصلاً، ثم إرساء وإشاعة قيم تقبل الآخر المختلف واحترامه وتفهم خصوصيته، والانفتاح عليه والتسامح والتعاون والتبادل معه، وما إلى ذلك من كل السياسات الكفيلة بمحاصرة أضرار الاختلاف وعلاجها، واستثمار جانبه الخيّر لصالح تقدّم الأمّة ورقيّها.

ولقد كانت خطوة تخصيص زمن للبث بلغة الماي في القناة الوطنيّة صائبة تأتي في هذا السياق، تحسب لإدارة القناة ولوزارة الثقافة والإعلام الصوماليّة في حكومة السيد حسن على خيري ورآسة السيد محمد عبد الله فرماجو، فلهم جميعاً سلامي وتقديري.

عبد الناصر محمد معلم حسن

28/10/2017

مقديشو

زر الذهاب إلى الأعلى