أحلام ثقافية (ركن أسبوعي) عباقرة لهم أصول في المنطقة (20)

تابع بترجمة فضيلة الشيخ نور الدين علي بن أحمد علو المجيرتيني صاحب التجديد والإبداع  (3)

الحلقة السابقة كنا عندما عبر الشيخ البحر الأحمر منطقاً من ميناء بربرة متوجهاً إلى منطقة الحجاز، وقد نجاه الله سبحانه  وتعالى عن الغرق عندما واجهت السفينة بعض الصعوبات والمشكلات من شدة الرياح وسوء الطقس، ثم بعد ذلك نزلوا كلهم عدن، علماً بأنّ اليمن ولاسيما مدينة عدن لم تكن جديدة لدى الشيخ حيث أشرنا فيما سبق إلى زيارة له قصيرة سبقت من هذه الزيارة، وقد التقى حينها بعض أهل العلم في عدن مثل الشيخ محمد سالم البيحاني وكذا شيخه الشيخ محمد العبادي، غير أنّ هذه الزيارة تختلف عن سابقتها حيت هدف الشيخ في رحلته هذه أداء فريضة الحج والعمرة ، ومن هنا واصل من عدن إلى المملكة العربية السعودية حتى وصل مدينة جيزان وطلبوا منه الجواز ولم يكن معه، فأقف في مركز الشرطة وذلك في غرة رمضان عام 1366ه فكفله بعد يومين أحد المحسنين وبدون معرفة سابقة، فتعرف نور الدين علي بإمام المسجد الجامع وأخذه الإمام إلى القاضي الشيخ عبد الله بن سليمان الحميدي في بريدة، فامتحنه القاضي المذكور في التوحيد فوجده فاهما له، لأن فضيلة الشيخ نور الدين تعلم ذلك في بلده مع أهل العلم هناك كما عرفنا ذلك من قبل ثم في عدن في حلقات الشيخ محمد العبادي وكذا في حلقة الشيخ محمد سالم البيحاني.

وعلى كل حال بعد الحديث الذي جرى بين الشيخ نور الدين على بن أحمد والشيخ عبد الله بن سليمان الحميدي رحب الأخير بالشيخ الضيف فقال له: تكون معنا مدة بقائك في جيزان، وأعطاه غرفة فيها كتب للمطالعة وبها سرير للنوم والاستراحة، ولم يقتصر الشيخ عبد الله الحميدي في ذلك وإنما قام  أيضاً تسهيل الأمر في كيفية الدخول الشيخ نور الدين في البلاد والإجراءات المترتبة في ذلك، بحيث كلم الشيخ عبد الله بن سليمان الحميدي قاضي المنطقة والإمام الأمير عنه ليسمح له الدخول في المملكة فكان جوابه: لا أستطيع ذلك إلا بأمر ملكي، فأرسل نور الدين برقية إلى الملك عبد العزيز بن الإمام عبد الرحمن فجاء الرد بالموافقة وكان نصها ما يلي: “نور الدين علي الصومالي مسموح له بالدخول في المملكة معفى عن الرسوم” وبناء عليه أكرمه الأمير بالضيافة العامة، وأركبه السيارة التي تحمل البريد، وتعرف نور الدين على الشيخ القرعاوي وتلاميذه في جيزان وكان من أكبر طلبته الشيخ حافظ بن أحمد الحكمي.

ثم بعد ذلك سافر من جيزان إلى مكة المكرمة ودخل بها في 18 شوال سنة 1366ه وسلم البرقية إلى الضابط في مركز الشرطة بالحميدية؛ لأنّ البرقية كانت في تلك الفترة بمثابة تأشيرة الدخول للبلاد علماً بأن تلك البرقية لم يأخذ الشيخ بل تركها في المكان تهاوناً منه، ولو حفظها معه لكان أحسن له لأنّها جزء من حياته وتاريخه ولعلنا نستطيع أن نجد صورة أو نسخة من تلك البرقية في الديوان الملكي المحفوظ حتى الآن.

الشيخ نور الدين علي بن أحمد والملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل السعود:

ووصل الشيخ نور الدين مكة المكرمة ومكث فيها وقد قدر الله له أداء فريضة الحج في هذه السنة، وبعد انتهاء شعيرة الحج استطاع أن يقابل الشيخ على الملك عبد العزيز آل السعود بعد الحج، وكان ذلك من عادة الملك بل وما زال ملوك مملكة العربية السعودية يقابلون العلماء والمواطنين حتى يومنا هذا وبها جرت العادة الملكية بحيث يستمعون شكاوي الناس وآراءهم، وعند مقابلة الملك للشيخ قال الملك للسيخ ما تطلبه؟ ولم يطلب الشيخ نور الدين إلّا الكتب فأمر به له، ثم بعد ذلك اتصل بالوزير الوحيد للملكة عبد الله بن سليمان رحمه الله فأعطاه سبعة من الكتب المراجع وألف ريال.

مواصلته بطلب العلم:

لم تعجب الشيخ رحمه الله أن يمكث الحرم دون أن يستفيد ما كان يجري على جنباته وضواحيه من العلم والمعرفة، فاختار أن يلتحق بدار الحديث بمكة، وكان يعلم أنّه لا يوجد في بلاد الصومال من يعتني في الحديث ومن هنا تشجع في أن ينضم إلى تلك القافلة العلمية، وكان مدير دار الحديث في تلك الفترة إمام الحرم الشيخ أبو السمح عبد الظاهر بن محمد نور الدين، وكانت لهذه الدار قيمتها العلمية عند الأمة، وكان يكفي فضلها ومكانتها بأن من مدرسيها أصحاب القامات العلى والمعارف الجم مثل الشيخ عبد الرزاق حمزة المصري والشيخ أبو السعيد، والشيخ عبد الحق الهنديان، واستمع الشيخ منهم جامع صحيح البخاري وكذا صحيح مسلم، وبعض السنن مثل سنن أبي داود، والنسائي، والترمذي، وابن ماجه، والموطأ جميعاً، وحصل من المشائخ الشهادة العرفية المعتادة للمحدثين مع الإذن بالرواية عنهم والإجازة في حمله.

العلماء الذين التقى بهم الشيخ نور الدين علي:

وخلال وجوده رحمه الله في المملكة العربية السعودية التقى فضيلته عدداً كبيراً من أصحاب الفضيلة  والعلماء بحيث تعرف بهم واحتك معهم، وكان من بين هؤلاء: سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز رحمه الله واستمع منه فتح المجيد في الحرم المكي بموسم الحج، كما تعرف أيضاً رئيس القضاة في الحجاز الشيخ عبد الله بن حسن ونجلاه الشيخ عبد العزيز رئيس أئمة الحرم سابقاً، وكذلك الشيخ حسن آل الشيخ وزير التعليم العالي فيما سبق، كما التقى أخاه الشيخ عمر حسن آل الشيخ الذي أصبح رئيس هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتقى الشيخ نور الدين أيضا بالشيخ محمد حامد الفقي المصري واستمع دروسه في الحرم في موسم الحج وكان هذه الشيخ الرئيس العام لجماعة أنصار السنة المحمدية في مصر. كما اجتمع مع الشيخ حسن البنا قبل اغتياله واستمع محاضراته في موسم الحج، وكان الشيخ حسن البنا المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين. وهذه اللقاءات والاجتماعات تدل على حنكة الشيخ نور الدين ومرونته وحبه للعلماء ورجال الإصلاح في العالم الإسلامي.

عودته إلى بلاد الصومال:

وخلال وجوده في منطقة الحجاز وخاصة الحرم المكي الشريف التقى عددا لا يستهان بهم من أهل العلم، وهذا الأمر ساهم في تغير مسيرة حياته حيث قد كونت لديه بُعداً جديداً في حقل الدعوة الإسلامية، ومن هنا كل هذه المعارف والتوجيهات التي تلقاها في الحجاز من أهل العلم و الفكر في العالم الإسلامي جعلته يتحمل المسئولية الكبيرة تجاه بلده الصومال، وأن يوصل ما تعلم في الحلقات والأروقة العلمية في الحرم وبدار حديثها؛ لذلك فلا غرابة إذا قرر الشيخ أن يرجع إلى بلده الصومال لنشر العلم والدعوة الإسلامية ليس إلّا.. ومن ثمّ سافر إلى الصومال حاملاً صناديق من الكتب بالباخرة، وكان اسم الشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب مكروها عند بعض المتصوفة فقطع من كتبه الصفحة الأولى التي فيها اسمه للمصلحة العامة، وانتشرت الكتب بدون معرفة كابتها كما فتح الشيخ مدرسة بسيطة تعلم الأمة بعض تعاليم الدين، وقام بعض أهل التصوف المتشددة إغلاق المدرسة بالقوة ورفعوا شكاوي ضد الشيخ بسبب أفكاره، وكان ذلك في الفترة التي وقع الصومال تحت وطأة الاستعمار الإنجليزي، وتدخل الإنجليز فنقل الشيخ نور الدين علي من مدينة جالكعيو إلى مدينة قرطو في سيارة حكومية هو وأربعة من طلبته البارزين، فحمل معه الكتب ووزعها هناك بين الناس، فوجد منهم قبولاً، ولكن تدخل الأمر مرة أخرى من لم يرحب الفكرة والدعوة السلفية على حد قول الشيخ نور الدين علي، وعرقل المسيرة، وأكثر من ذلك رفعوا الشكوى إلى الحاكم المستعمر الإنجليزي ذاكرين فيها أكاذيب وافتراءات عقيمة لا أصل لها، ومن الغريب أنّ القاضي الشيخ علي آدم فارح وشيخ المدينة الحاج جامع محمود كانوا ضمن المعارضين للشيخ وقد أصبحوا شهداء على تلك المزاعم والافتراءات على الشيخ نور الدين ودعوته، ونتج عن ذلك أن حُكِمَ عليه بالسجن مدة شهر واحد، ولكن الشيخ نور الدين كعادته لم يتوقف عن دعوته ونهجه فوجد أنّ الفرصة سانحة له حتى ولو كان في السجن، ومن هنا قام يدعوا المساجين ليعلمهم مبادئ التوحيد ومبادئ الصلاة وأحكامها، ثم بعد انتهاء مدة المحكومة عليه حملوه إلى مدينة بندر قاسم (بوصاصو) غير أنّ الشيخ لم يأل جهداً في عمله الدعوي فيها واستمر على منواله يدعوا الناس إلى الحق والطريق المستقيم، ولم ترفع شكاية منهم عنه، مما يدل على انتشار دعوته وما كان يقوم به من تجديد وتعليم، ثم ذهب إلى مدينة علولة التي يشار إليها بالبنان بأنها وهابية، لأنه كان فيها قديماً داعية إلى الله سبحانه وتعالى الشيخ صالح حلديد من قبيلة صواخرون المجيرتينية، فوجد فيها رماداً تحته ملّه فدرّس بعض الكتب في التوحيد والعقيدة، وألقى المحاضرات، فاستحث الناس بذلك، بل أنّ بعضهم لم يخف بأن قال بقول مرتفع : ” لم نسمع هذه الدعوة التي تحمل في طياتها مبادئ الإسلام ومعاني التوحيد السامية وعقيدته السمحة بعد الشيخ صالح حلديد.

رجوعه إلى مقديشو وظهوره القوي :

ومن علولة سافر إلى مقديشو في جنوب البلاد، وفور وصوله إليها باشر عمله الدعوي ونشر العلم، وهذه المرة عرف الشيخ بأنّ في الميدان علماء أجلاء آخرون نهجوا المنهج نفسه وقد سبقوا به إلى المعركة، من حيث تبيين الحقائق ونفث الغبار الذي ران على بعض تعاليم الدين  الإسلامي وروحه، لذلك حينما حصل الاصطدام بينه وبين أهل الطريقة والتصوف لم تقم المعارضة ضده وحده، وإنّما لما قام الأغلبية الساحقة في العاصمة بالشكاية ضده  كانت أيضاً مثلها ضد الشيخ محمد علي بافضل صاحب مسجد الرياض في حي شبس (المعروف بحي العرب)، وكذلك ضد مدير مدرسة الفلاح وضد الشيخ محمد باحشوان صاحب المكتبة المعروفة في العاصمة، فوصلت الشكاية والدعوة ضد هؤلاء العلماء إلى الإدارة الوصية الإيطالية من الأمم المتحدة بدلاً من الحكومة العسكرية الإنجليزية، وقام المستعمر بمصادرة كتب الشيخ نور الدين، وكان ضمن كتبه قائمة مهمة من الأمهات الستة وشروحها وتفسير ابن كثير، وفتح القدير للإمام محمد علي الشوكاني وغيرهم، غير أن الشيخ نور الدين تظلم من مصادرة كتبه، وتلقى المستعمر هذا التظلم والشكوى من الشيخ وأسند إلى الجنة من القضاة الصوماليين للحكم في ذلك، وكان من هؤلاء الشيخ أبو بكر عبد الله رئيس قضاة الصومال، والشيخ محمد آدم رئيس قضاة مقديشو، فكتبوا تقريراً عن ذلك وقالوا فيه: “هذه الكتب لم تكن معتادة في الوطن، فيرد له لاستعماله الخاص بدون نشرها بين الناس، ويتعهد ذلك بتوقيع منه، ويعاقب على الخلاف في ذلك القرار.”

الشيخ نور الدين في سلك القضاء الصومالي:

أراد فضيلة الشيخ نور الدين علي بن أحمد أن يستقر في مدينة مقديشو بعيداً عن مسقط رأسه ودويه، ولم تكن لديه أموال يصرفها لنفسه ولعياله، لأنّ دكانه في مدينة جالكعيو أغلق بعد أن ذهب أدراج الرياح بحيث كان يصرف الفوائد والرأسمال لنفسه ولعياله، ومن هنا احتاج للعمل بمصاريف أسرته وخاصة أنه في مقديشو التي لها رونقها الخاص في المعيشة والتكلفة الأسرية، ومن حسن حظه أعلنت الإدارة الوصية وظائف شاغرة في سلك القضاء، ولكن بشرط أن يتسابق الناس في مناصب للقضاء الشرعي المعلن فقدم الشيخ عريضة يطلب فيها تلك الوظيفة لسد احتياجاته، ووصل عدد المتقدمين إلى تلك الوظائف حوالي سبعون رجلاً، ولما عرف بعض من أهل الطرق الصوفية رفعوا شكايات ضده بمنعه من الاشتراك في المسابقة والتقديم، غير أنّ ذلك لم يلق آذاناً صاغية وجرى الامتحان وفرص الطلبات أمام قضاة شرعيين صوماليين والقضاة القانونيين الايطاليين العارفين بالشريعة الإسلامية بلغتهم. وكان مواد الامتحان: الفقه الإسلامي على المذهب الشافعي، واللغة العربية، والتاريخ كتابياً وشفوياً. وبعد فترة محددة ظهرت النتيجة على أن الشيخ نور الدين على أحمد العلوي أول الناجحين فتعين قاضياً لا يمنع منه حكم في الشريعة الإسلامية إلّا إقامة الحدود وهي العقوبات البدنية من قصاص وقطع يد وجلد ورجم وأصبح القضاء حصناً للدعوة الإسلامية.

وللحديث بقية.

د/ محمد حسين معلم علي

من مواليد مدينة مقديشو عام 1964، أكمل تعليمه في الصومال، ثم رحل إلي المملكة العربية السعودية ليواصل رحلته العلمية حيث التحق بجامعة أم القرى قسم التاريخ الإسلامي حيث تخرج في عام 1991م، ونال الماجستير بنفس الجامعة في عام 1998م ،كما واصل دراسته في كل من السودان والنرويج، حيث نال درجة الدكتوراة بجامعة النيلين عام 2006م، أما في مملكة النرويج فقد تخصص بالدراسات التربوية وكذا الثقافات واللغات المتعددة في جامعة همر بالنرويج. وعمل أستاد التاريخ والحضارة الإسلامية في الجامعة الإسلامية في مقديشو - الصومال، وهو عضو في عدد من المنظمات المحلية والإقليمية والدولية، أصدر "ديوان الشاعر بعدلي" عام 2002م ، و"الثقافة العربية وروّادها في الصومال" عام 2010م، وله عدة بحوث أخرى، يقيم الآن بالنرويج .
زر الذهاب إلى الأعلى