المذاهب وحركة الزمن: التصوف والسلفية نموذجا (1)

   هناك حقيقتان لابد أن نضعها في بالنا عند التعامل مع أي مذهب أو حركة:
الأولى: أنه لا يمكن أن يبقى أي مذهب ديني أو فلسفي على قيد الحياة الا اذا كان هنالك مبرر لبقائه ، أي كان هناك فيه ما يجذب الناس اليه جذبا.
الثانية أن كل حركة وكل تيار يحمل في جيناته عوامل الانهيار، وهي مماثلة مع عوامل الانطلاقة والصعود التي أدت الى نهضته.
هذا قانون عام يضاهي قوانين الكيمياء والفيزياء ينطبق على كل المذاهب، ومعنى ذلك أن كل مذهب فلسفي أو تيار فكري لا يخلو من جانب مشرق..وحتى أخبث المذاهب وأردئها بضاعة لا تكون استثناء، وهذا لا يعني تزكية للباطل، وانما مواجهة الحقيقة بصدق ،وتأسيس منصة للانقضاض على الزيف والباطل، فان الحق سبحانه أوضح أن في الخمر نفعا تمهيدا لبيان مقابحها، ولا يتنافى ذلك أنه حرمها ووصفها بالرجس وأنها من عمل الشيطان وأنها صادة عن سبيل الله.

وهكذا يجب الاعتراف بوجود قدر من الصواب حتى للمذاهب الهدامة والفلسفات الردية فضلا عن مدرسة أو تيار داخل المذهب السني العريض الذي يحتكم الى الأصول التشريعية المعهودة بالجملة؟!.

ثمة حقيقة لا يتنبه اليها كثير من المشاركين في الجدل الفكري السائد داخل التيارات السنية وهي أن كل مذهب أو تيار فكري يسود الحياة ردحة من الزمان فانه لا ينشأ قسرا وإنما بعد تعقد الأسباب ، وتهيؤ الأجواء، وظهور المسوغات لبروزه، فيزيح المذهب السابق له من مسرح الحياة بعد أن يتغلب عليه في ساحة المشاعر والأفكار ، وغالبا ما يوظف الجديد عيوب القديم ويستغلها لصالحه ،يعززه تحمس المجتمع للتغيير ، انه تماما كما تسقط عروش الأسر الحاكمة بفعل ضربات أسرة شابة ومتحفزة بعد أن تثقل كاهل الأسرة القديمة المظالم ويصيبها الترهل الفكري، والإفلاس السياسي، وها أنا أوضح لك ذلك بمثالين : تيار التصوف، والمذهب السلفي (في حلقة ثانية) وكلاهما من عمق التاريخ، ولكنهما شهدا مدا وجزرا وصعودا وهبوطا :
الأول يتمثل بالتصوف الذي نشأ 《زهدا》 و《نسكا》 و《 ورعا》وأقبل أصحابه فقراء ورعين كرد فعل لحياة الترف التي سادت الحواضر الاسلامية كبغداد والبصرة ودمشق وانتشار الجشع والتكالب على متع الدنيا والاقبال على مباهجها، مما أدى الى انتشار الأمراض الاجتماعية كالتزلف للحكام، والنصب والاحتيال وشيوع المادية البغيضة وقيام الطبقية والتمزق المجتمعي، وتحول العلوم الاسلامية الى قوالب وصناعات مملوءة بالتكلف والحيل قلما تؤثر في تحسين وجه الحياة.
كل ذلك أدى الى انتشار دعوات الزهد ورواج أصوات مناهضة للترف المادي وظهرت دعوة مضادة تتمثل في طائفة من الزهاد والنساك كالفضيل بن عياض ورابعة العدوية وأبي العتاهية، وقد قامت حركات ثورية للمقاومة كان قوامها المتصوفة الذين دعوا الى المعروف ونهوا عن المنكر ، فقد ظهرت في الاسكندرية عام 200هجرية كما حسب الكندي المؤرخ في 《كتاب الولاة وكتاب القضاة 》طائفة يسمون بالصوفية يأمرون بالمعروف ، ويعارضون السلطان” ولقد ثاروا وعزلوا قاضي المدينة ..وفي سنة 214 كان قاضي الاسكندرية واحدا من جماعة الصوفية. ( حسب الكندي) ثم تطورت هذه الدعوات الى نظم وعلوم ورياضات ومصطلحات والى كتب مؤلفة في دقائق النفوس كالخطرات والوساوس، والجوع والفقر، واتخذوا الرياضة الروحية طريقا لتهذيب النفس ، ثم ظهر《 التصوف الفلسفي》 الذي اختلط بالفلسفات الشرقية كالهندية، وحسب ابن الجوزى “فقد تمكن-أي ابليس-من المتأخرين-المتصوفة-غاية التمكن..”، ثم نشأت منه طرائق في السلوك والتربية، متمثلة بالطرق الصوفية المشهورة التي استقطبت جمهور المريدين كالقادرية والرفاعية والشاذلية والنقسبندية ومع استمرار عجلة الزمن فقد التصوف بريقه ولم يعد له جاذبية بل أصبح عائقا عن العمل ومواكبة التطور على النحو الذي يصوره ابن الجوزى المتوفى في 597هجرية في كتابه 《 تلبيس ابليس:《 حيث يقول: “والتصوف طريقة كان ابتداؤها الزهد الكلي ثم ترخص المنتسبون اليها بالسماع والرقص فمال اليهم طلاب الاخرة من العوام لما يظهرونه من التزهد، ومال اليهم طلاب الدنيا لما يرون عندهم من الراحة واللعب..”.
وفي العصر الخامس الهجري اجتاح العالم الاسلامي موجة أخرى من الفساد الأخلاقي العارم بتأثير الروح المادية والفساد السياسي،والتناحر الاجتماعي؛ وقد نشأت طبقات لا تجحد بالله والاخرة كعقيدة، ولكنها نسيت الله بتاتا، وتحيا حياة مترفة لاهية-حسب توصيف أبي الحسن الندوي في كتابه ( رجال الفكر والدعوة)- وهنا تضاءل ابداع المسلمين الحضاري مما جعل بلادهم هدفا للطامعين من الصليبيين وغيرهم ثم من التتار.
في هذه المرحلة اتجه التصوف اتجاها يكاد ينتهي به الى الانفصال عن الشريعة، وظهرت نزعة《 وحدة الوجود 》 ولكن نتيجة للتجديد العلمي والفكري داخل المدرسة الصوفية بفضل المجددين أمثال الوزير نظام الملك (اغتالته الإسماعيلية 485هـ) الذي جدد من هيبة الخلافة ما كان قد درس منها الى أحسن حالاتها-حسب وصف المؤرخ أبي شامة- ، والامام الغزالي (ت505)، والشيخ عبد القادر الجيلاني{توفي561} الذي كان من أكبر الدعاة الى اخضاع 《الطريقة》 للشريعة استعادت المراكز التربوية الصوفية فاعليتها من جديد وأصبحت منطلقا للتحرير، وتخريج قادة الجهاد أمثال صلاح الدين، ونور الدين زنكي مع عوامل أخرى .
وفي القرن الثامن الهجري ظهرت ثورة تصحيحية ضد التصوف من حيث المنهج والممارسة قادها ابن تيمية-رحمه الله-المتوفى 728هجرية ، وهذه لم تكن سوى ثورة على العلل المعرفية والسلوكية التي رافقت انتشار الطرق الصوفية التي اعتمدت على الوسائط وبالغت في دعوى الكرامة والخوارق وهكذا، كما فضح الحركات الهدامة، ،وقد استفادت حركة حركة المعرفة من هذا النقد أيما استفادة، بقدر ما بث الحيوية في فكرالعالم الاسلامي.
وفي العصر العثماني مثلت الطرق الصوفية حواضن لنشر فكرة الجهاد والمقاومة ، ومثلت العقيدة الاسلامية دافعا للاستبسال فكانت المجاهدون ينطلقون من الزوايا، والتكايا، ولكنه في عصور الانحطاط تحول التصوف المنحرف الى عامل رئيس من أسباب الضعف والانفصام عن ركب الحياة ؛ نظرا لأن أفكار التصوف لم تعد تستجيب للمستجدات بسبب الجمود الفكري،فالدولة العثمانية في القرنين الأخيرين كانت غارقة في كثير من مظاهر الشرك والبدع والخرافات كبناء القباب والأضرحة بتشجيع الدولة العثمانية، كما تحترم البطالة، وتبيح التسول ، وتسعى الى مواطن الذل، وفسدت عقيدة القدر وأصبحت عندهم سلبية مخزية، وعاش المتصوفة حياة النعيم والترف بعد أن كان الزهد والتضحية سمته الأساسية -حسب توصيف الدكتور محمد الصلابي في مؤلفه ( الدولة العثمانية : عوامل النهوض وأسباب السقوط)-بخلاف عصر السلاطين الأوائل الذين كانت تتفجر معاني التوحيد في كلماتهم، وتنعكس على أعمالهم، فقد نقل عن محمد الفاتح قوله في وصيته لمن بعده 《جانب البدع وأهلها، وباعد الذين يحرضونك عليها》-حسب نقل الصلابي .
وهذا يعني أن تيار التصوف شهد منذ ظهوره عوامل الجذب والانكماش والصعود والنهوض في حركة لولبية بطيئة حاملا في جيناته كلا الأمرين في آن واحد، وفي حال انحطاطه في العصر الحديث، فقد أفسح المجال في الجزيرة العربية لمذهب جديد يتسم بالحيوية والنشاط.

للموضوع بقية

محمد عمر أحمد

باحث وكاتب صومالي، يؤمن بوحدة الشعب الصومالي والأمة الإسلامية، درس في الصومال وجمهورية مصر العربية، عضو إتحاد الصحفيين العرب سابقا، ومحرر سابق لموقع الصومال اليوم، يعمل حاليا محاضرا بجامعة ولاية بونتلاندا بمدينة جاروي.
زر الذهاب إلى الأعلى