مقديشو تكافح من اجل استعادة مكانتها بين العواصم

طوت مقديشو عقدين من الزمان ذاق في ثناياهما أهالي المدينة الويلات والمآسي وبدأت تنفض غبار الحرب وتشق طريقها نحو الاستقرار والازدهار بغية استعادة مكانتها بين عواصم العالم في ظل انطلاق مشاريع طموحة  لإعادة بناء الوطن وفق رؤية شاملة  أطلق عليها «رؤية ٢٠١٦».

وتهدف «رؤية ٢٠١٦» الي محورين، اعادة بناء مؤسسات الدولة بشكل وطني بعيدا عن ارث العهد البائد الذي مزق البلاد وفرق شمل الأمة والنهوض بإقتصاد الوطن من خلال ارساء دعائم الدخل القومي وتشجيع الاستثمار ودعم التجارة الحرة.   

وتعطي  «رؤية ٢٠١٦» ايضا وبشكل أساسي أهمية خاصة الي بناء قدرات وكفاءة المؤسسات الأمنية في البلاد التي انهارت عقب اندلاع الحرب الأهلية عام ١٩٩١ لتؤدي مهامها  الوطني على أكمل وجه والمتمثل في حماية السيادة الوطنية واعادة الأمن والاستقرار الي ربوع البلاد. كما لم يغب عن هذا المشروع دور المصالحة وتعزيز والتعايش السلمي بين العشائر الصومالية، وتشكيل الإدارات المحلية من اجل زيادة فرص المشاركة السياسية والإدارية لشعوب المناطق الأخرى وإتاحة الفرصة لهم بالمشاركة في عمليات اتخاذ القرارات الوطنية. 

كما تولي الرؤية إهتماما خاصا للتعليم والبحث العلمي وتحسين الكفاءات العاملة في الدولة على اعتبار ان التعيلم أساس نهضة الأمم وانها مفتاح المستقبل في الصومال والطريق الوحيد للتخلص من المشاكل الكثيرة التي يعاني منها  الشعب. وانطلاقا من تلك الرسالة اعلنت الحكومة بالتعاون مع دول صديقة ومنظمات دولية عن مشروعات تعليمية طموحة، بينها مشروع «اذهبوا  إلى المدارس» الذي يوفر  خلال السنوات الثلاث القادمة تعلميا مجانيا لأكثر من مليون طفل يعيشون في جميع أقاليم الصومال ، وبتكلفة مالية قدرها ١١٧ مليون دولار أمريكي.

عندما دخل المشروع الوطني وفق «رؤية ٢٠١٦» حيز التنفيذ عام ٢٠١٣ تغيرت ملامح البلاد والعاصمة مقديشو على وجه الخصوص وبدأت تنعكس ايجابا على حياة المواطنين الصومالين في الداخل ، وملايين  آخرين في الشتات الذين رأوا مشروع رؤية  ٢٠١٦ في البلاد نافذة أمل لهم تمكنهم من العودة الي بلدهم الأم والمساهمة في بناء الوطن بالعلم والخبرة التي اكتسبوها من البلدان التي عاشوا فيها خلال السنوات الماضية. 

وبالفعل عاد خلال العامين الماضين الي البلاد عشرات من صومالي المهجر براس مالي كبير، فبدأوا الاستثمار في بلادهم مستغلين من  تحسن الأوضاع الأمنية والتقدم الذي تحرزه الحكومة في المجال السياسي واعادة المؤسسات المعنية بشؤون الخدمات الإجتماعية. 

هذا ويمكن للمتجول في العاصمة مقديشو ملاحظة التقدم الكبير الذي تشهده المدينة وكيف تنفض نفسها عن غبار الحرب الذي استمر أكثر من 24 عاما،  وتشق طريقها نحو الاستقرار والازدهار. كما يمكن له ان يلاحظ كيف بدأت الخدمات الحديثة التي لم يرها الشعب خلال الحقبة الماضية  تتوفر في اسواق وشوارع مقديشو.

 الفنادق وشاطئ ليذو 

يمكن ملاحظة التطور الملحوظ الذي تشهده مدينة مقديشو من خلال أعمال بناء الفنادق الفخمة، والمطاعم  الفاخرة على شواطئ محيط الهندي، ومزاكز التسويق في سوق بكارى، وبنايات كبيرة سوء للشركات او للأفراد العاديين في شوارع المدينة الرئيسية، بالأضافة الي عمليات ترميم تشهدها المنشأت الحكومية، والمرافق الحيوية للدولة. 

يوجد في مقديشو فنادق فاخرة تجد كل ما لذ وطاب، وسفرة عليها كل ما تشتهيه الأنفس، ويعمل فيها، موظفون صوماليون وأجانب من بلاد عربية وأفريقية مدربون على أداء وجباتهم بأكمل وجه، وحريصون على توفير الراحة للنزلاء.

بدأ أهالي مقديشو من جديد بالعودة الي شوطئ البحر بعد أكثر من ٣ عقود، حيث يقضون كل يوم جمعة ساعات في شاطىء ليذو الشهيرفي ناحية حمروين، تستنشقون عبق البحر، ويتمتعون بأكل طعامه الطازج، أمام الهواء الطلق. 

وهذه الأنشطة السياحية انعكست إيجابا على حياة المواطنين، واضافت نقلة  نوعية في حياتهم المعيشية بعد ان وفرت فرص عمل للعاطلين، ولاسيما في اوساط الشباب المنتمين الي الطبقات الفقيرة.  

إعادة الإعمار

في الآونة الأخيرة تجري في مقديشو عمليات إعادة إعمار لما دمرته الحرب الأهلية. رغم محدودية هذه العمليات التي تنفذها شركات أجنبية وتشرفها الحكومة الصومالية الا أنها تشكل أهمية كبيرة لحياة المواطنين الصوماليين الذي ذاقوا مرارة الحرب الأهلية والكوارث الطبيعية. كما أنها تعد مؤشرا قويا على بداية مرحلة جديدة للصومال يقطع الصلة مع الماضي الأليم. 

يتواصل على قدم وساق مشروع ضخم لإعادة بناء وتوسعة مطار آدم عدي الدولي بمقديشو الذي يفترض أن يصبح من أكبر المطارات في منطقة القرن الأفريقي بعد انتهاء جميع مراحل المشروع. ويهدف المشروع الذي شارفت مرحلته الأولي على الإنتهاء إلى توسيع القدرة الاستيعابية للمطار ليتمكن من استقبال الطيران العالمية .

تعمل شركة كوسفو التركية التي تنفذ المشروع على تطوير المطار وفقاً لأرقى المقاييس العالمية وضمان أن يكون قادراً على تقديم خدمات ذات مستوى عالمي تلبي الطموحات الإقتصادية للصومال. ويتوقع أن يكون المطار خلال السنوات القليلة المقبلة كمطار رئيسي لتنقلات المسافرين من شتى اصقاع العالم وكنقطة عبور لرحلاتهم المحلية والدولية. ويستوعب مطار ادم عدي الدولي حاليا أكثر من 40 رحلة يوميا ،  بينما كان في السنوات الماضية يستوعب مجرد 3-4 رحلات يومية.

كما تسلمت شركة “البيراك” التركية قريبا، مهام إدارة ميناء مقديشو الدولي، لمدة 20 عاما، من اجل تطوير الميناء ليواكب الموانئ الحديثة في العالم.

قد توقف ميناء مقديشو عن العمل بعد سقوط الحكومة المركزية، عام 1991، ثم أعيد افتتاحه إبان عمل القوات الدولية لحفظ السلام عام 1992 ، ثم أغلق مجددا في عام1995، عقب خروج القوات الدولية لحفظ السلام من البلاد، ثم أعادت المحاكم الإسلامية التي سيطرت على جنوب الصومال في عام 2006 افتتاحه مجددا. وتقوم شركة البيراك التركية بتزيده ميناء مقديشو الدولي بمعدات وأجهزة متطورة بهدف تحسين وتطوير أداء الميناء ليحتل مكانته كوجهة نقل تضاهي المستويات العالمية في خدماتها ومرافقها.

النمو الاقتصادي

سوق حمروين الذي كان أكبر الأسواق في الصومال ما قبل الحرب الأهلية بدأ يتعافى من آثار الحرب. استعاد هذا السوق هيبته وسمعته التي كان يتمتع بها قبل عام 1991م. بدأت متاجر أفراردود الشهيرة تفتح ابوابها، وعاد بعض التجار المعروفين إلي السوق لمزاولة أعمالهم وحرفهم. 

وصار سوق حمروين وجهة للطبقة الثرية في العاصمة، وخصوصا العاملين في القطاع الحكومي والموظفين في الشركات الكبيرة أوالهيئات الدولية. 

لأول مرة منذ أكثر من 23 عاما وصلت إلى الصومال، خدمة الصراف الآلي الذي اختفى في أوائل تسعينات القرن الماضي عندما دخلت البلاد في حرب أهلية استمرت نحو 20 عاما.

ويأتي هذا التطور في وقت يحتاج الصوماليون مثل هذه الآلات، بحيث يقال ان  نحو 40 % من الأسر الصومالية يعتمدون على تحويلات العاملين في دول أخرى.

عودة الصناعات الصغيرة

ونتيجة لتسحن الوضع الأمني في الصومال، بدأ المواطنون باستثمار قطاع الصناعات وبدأت المصانع الصغيرة تظهر في الصومال من جديد. ويقدر عدد المصانع الصغيرة والمتوسطة التي انشأها قطاع الخاص خلال السنوات الأخيرة في الصومال أكثر من 50 مصنعا والتي تشمل القوارب وخزانات المياه والمشروبات والأدوات البلاستيكية والإسفنج وتعليب الأسماك والصابون ومساحيق الغسيل وغيرها.

ومن تلك المصانع، مصنع “سوداكينغ”  واحد من المصانع الصغيرة التي تم إنشاؤها بمقديشو هذا العام، وينتج 11 مشروبا مختلفا، بعضها محلي إضافة إلى المياه المعدنية. فهذه المصانع استطاعت على توفير فرص عمل لكثير من الشباب.

في مجال الصحة

بحلول عام ٢٠١٦ من المتوقع ان يشهد القطاع الصحي العام بالصومال تطورا ملحوظا. فقد أطلقت الحكومة الصومالية في ٢١ مارس عام ٢٠١٣ خططاً استراتيجية جديدة للقطاع الصحي لمناطق – جنوب وسط الصومال، بونت لاند وأرض الصومال.

 ويتوقع أن يؤدي هذا المشروع الصحي الأول من نوعه في الصومال منذ أكثر من عشرين عاما الي التخلي عن نظام الرعاية الصحية على مستوى الحالات الطوارئ الذي كان سائدا خلال السنوات الماضية والاعتماد على نظام الرعاية الصحية الشاملة الذي سيوفر خدمات الصحية الأساسية لآلاف من الأسر الذين يعيشون في المدن الكبرى بالبلاد.

في هذا العام أعيد فتح مستشفى دغفير، أكبر المسشتفيات في العاصمة مقديشو، وذلك بعد إنتهاء عملية إعادة بنائه، وتجهيزه بأحدث التجهيزات الطبية بتمويل من تركيا.

هذه الخطوة  فتحت نافذة أمل واعد للصوماليين، بل ولملايين من سكان منطقة القرن الأفريفي، وبحسب مسؤولين من الحكومة التركية التي مولت هذه المشروع، فإن المستشفى يعد ضمن أحدث المستشفيات في شرق أفريقيا، وتتوفر فيه جيمع التخصصات الطبية، والأجهزة اللازمة لمعالجة الأمراض الخطيرة، وسيكون قادرا على سد الفراغ الصحي في الصومال، وإغناء الصومالين عن العلاج المكلف في الخارج.

 نحو مدينة آمنة وجملية

وفي إطار مشروع تؤمة مقديشو وإسطنبول وتحث شعار « مدينة آمنة وجميلة» قامت بلدية مقديشو بتنظيف وإعادة ترميم أهم الشوراع الرئيسية في مقديشو وبشكل يتناسب مع العواصم الدولية واضاءتها بمصابيح تعمل بالطاقة الشمسية التي اضافت رونقا وجمالا  في حياة المقدشاوين الذين عاشوا ٢٠ عاما مضت في ظلام دامس حتى باتوا اليوم   يستطيعون الخروج  في منتصف الليل للتمتع بالطقس وممارسة الألعاب دون خوف أو حمل سلاح. 

بعد غياب دام أكثر من عشرين عاما، قامت بلدية العاصمة الصومالية مقديشو بتركيب ايضا إشارات مرورية في مقطع “حواء تاكو” قرب القصر الرئاسي في الصومال كتجربة وتدريب للسائقين الجدد والمارة على الالتزام بقوانين المرور. ويأتي ذلك في إطار بداية مشروع توفير إشارات مرور على مقاطع العاصمة الصومالية المكونة من 54 مقطعا.

كما بدأت بلدية مقديشو بتسجيل للمواطنين فى العاصمة مقديشو إلكترونيا لأول مرة بعد غياب دام أكثر من 20 عاما لإصدار شهادات ميلاد وبطاقات هوية بهدف تنظيم خدمات التعليم والرعاية الصحية ومحاربة الجرائم المنظمة.

ونتيجة لمشروع تؤمة مقديشو واسطنبول، يمكن القول ان مقديشو تكافح من أجل استعادة تراثها ومكانتها بين العواصم الأفريقية والعربية وتحث الخطى نحو تغيير صورتها كأخطر مدينة في العالم وتحويلها إلى مدينة آمنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان.

عودة النشاط الرياضي

فقد شهد ملعب بنادر ثاني أكبر الملاعب الرياضية في الصومال عملية بناء وترميم بتمويل من الاتحاد الدولي لكرة القدم (الفيفا) حيث اتنهت مؤخرا اشغال تغطية أرض الملعب بالعشب الصناعي. فعودة نشاطات ملعب بنادر أعاد روح الأمل في نفوس المعجبين بالكرة الذين حرموا في السنوات الماضية من المتابعة أو المشاركة في مباريات الأندية المحلية، نتيجة الظروف الأمنية  في البلاد.  

الفن 

الفن بأنواعه المختلفة جزء أصيل من التراث الوطني، ومن أهم مكونات الحضارة الصومالية. وكان يحظي الفن قبل اندلاع الحرب الأهلية في الصومال اهتماما كبيرا من الحكومة والشعب. وكان الكل يتفاني في حفظ وصناية كل ماله علاقة بالحضارة والتراث. وتم أنشاء أكاديمية للفنون وقرية للفن والفنانيين في مقديشو والقريبة من القصر الرئاسي. وخلال فترة الحرب تعرض الفن  لحالة من التهميش والضياع بسبب الظروف الأمنية ، لكن بعد أن وضعت الحرب الأهلية أوزارها وتحسن الوضع الامني بدأ الفن يعود من جديد مع عودة الفنانين الصوماليين إلي بلادهم. كما أعيد افتتاح المسرح الوطني، وتنظيم المسابقات الفنية.

 

عبد الرحمن عبدي

كاتب وصحفي صومالي
زر الذهاب إلى الأعلى