أحلام ثقافية (ركن أسبوعي) عباقرة لهم أصول في المنطقة (19)

تابع بترجمة فضيلة الشيخ نور الدين علي بن أحمد علو المجيرتيني صاحب التجديد والابداع  (2)

وخلال حديثنا عن الشيخ أبي محمد نور الدين علي ابن أحمد في الحلقة الماضية أشرنا إلى أنّ فضيلته – رحمه الله – مكث وقتاً كافياً في مدينة تليح لأداء مهمة الدعوة الإسلامية ونشر العلم بعد أن طلب منه بعض أعيان من أهل مدينة تليح بأن يصطحب معهم من مدينة قرطة إلى مدينتهم. وكان من شيمة الشيخ أن يستجيب مثل هذا الطلب وبعد قدومه إلى تليح جلس على كرسي العلم ودرس للناس تفسير القرآن الكريم مترجماً باللغة الصومالية ، وكذلك درس لهم بعض كتب الفقه الشافعي مثل كتاب منهاج الطالبين وغير ذلك.

رحلة الشيخ نور الدين إلى مقديشو:

ورغم أن فضيلة الشيخ نور الدين أصبح متمكناً بالعلم وجلس على كرسي العلم كما ذكرنا آنفاً بالإضافة إلى أنّه قبل ذلك تلقى علوماً كثيرةً على أيدي علماء أجلاء في منطقة شمال الشرقي إلا أنه لم يتوقف همه تجاه طلب العلم واستزداد المعرفة، ولكنّ هذه المرة رحل إلى منطقة بعيدة جداً عن منطقة الآباء والأجداد، حيث سافر إلى جنوب البلاد وخاصة مدينة مقديشو وقطع مسافةً طويلةً جداً. ولكي ينفذ مآربه وهدفه لازم في أول الأمر حلقة الشيخ محمد محي الدين الذي كان يقرأ في مجلسه كتاب منهاج الطالبين لإمام النووي ، كما حضر الشيخ نور الدين درس أخيه الأكبر منه وهو الشيخ أبو بكر محي الدين وتلقي منه كتاب الإرشاد لابن المقرئ.

رجوع إلى منطقة الشمال الشرقي ثم الرحلة الخارجية إلى عدن في اليمن:

وبعد أقضى فترة وجيزة في العاصمة عزم أن يرجع فضيلته إلى المنطقة الشرقية من الصومال ، وذهب إلى مدينة بندر قاسم ( بوصاصو) ، وقد  طلب أهلها منه تفسير القرآن الكريم، فلبى رغبتهم كما كان دأب أبي محمد فدرس لهم النصف الأول من القرآن، غير أنه لم يمكث كثيراً حتى رحل إلي مدينة عدن في اليمن، واجتمع هناك الشيخ محمد بن سالم البيحاني وشيخه الشيخ محمد العبادي، وقد استفاد منهما بعض قضايا التوحيد، غير أنّه بعد ذلك رجع إلى بلاد الصومال وإلى مدينة بندر قاسم مرة أخرى، ورغم أنّ هذه الرحلة كانت إلى خارج الوطن إلا أنّها كانت قصيرة، كما كانت هذه أول من نوعها في خارج البلاد ومن خلالها التقى بها فضيلته مع جهابذة في العلم والمعرةفة في القطر اليمني كالشيخ العالم محمد بن سالم البيحاني – صاحب المصنفات العديدة – وكذا على يد شيخه  العلامة الشيخ محمد العبادي عند زيارته في مدينة عدن باليمن – كما أسلفنا آنفاً – علماً بأن الشيخ محمد سالم البيحاني وشيخه محمد العبادي كانا مشهورين في تنديد البدع والخرافات والرد على أهل البدع،  مما يدل على أن الشيخ نور الدين تلقى من هذين الشيخين الجليلين علم التوحيد قبل أن أن يصل إلى أراضي الحجاز والنجد، وكذا قبل زيارته إلى الديار المصرية والتي تلقى فيها فضيلة الشيخ محمد حامد الفقي المشهور بالمجال المذكور آنفا باعتباره عضواً بجماعة أنصار السنة المحمدية ورئيسها في مصر في وقته. ومهما كان الأمر فإن الشيخ نور الدين عندما وصل إلى الأراضي اليمنية بقي فيما مدة ثم بعد مكوثه فيها رجع إلى بلاد الصومال كما أشرنا إلى ذلك من قبل وقد اجتمع بها مع الشيخ ورسمه أحمد جال حضوره من مكة فحصل منه على كتاب ” فتح المجيد شرح كتاب التوحيد” للشيخ محمد عبد الوهاب، وسافر إلى مدينة جالكعيو، وقد بدأ تفسير القرآن الكريم في المسجد الجامع بعد أن طلب منه أهلها، ويقول في ذلك الشيخ نور الدين :  ” وكان رأيهم – أي رأي غالبية الناس – من تفسير القرآن للتبرك لا لأخذ الأحكام والعبر منه ” ولكن الشيخ عزم أن يحقق مأرب أخرى جديدة في الميدان مثل محاولة وصول معاني القرآن الكريم بقدر الإمكان والوقوف على أحكامه، ومن هنا خطر على بال الشيخ فكرة رآها مناسبة في كيقية تبليغ هدفه وإيصال الفكرة التي كان يراها في الساحة الدعوية الجديدة في منطقة جالكعيو في وسط الصومال، ومن هنا اختار مجموعة من طلبة العلم مختاراً ممن هم في سن الشباب بحيث جمعهم في بيت واحد سراً لا يعرف غيرهم، وبدأ له كتاب “سفينة الصلاة” من الفقه، وكتب لهم التوحيد في الدفاتر، ثم اختار منهم أربعة من المتفوقين وبين لهم بعض قضايا تتعلق بالعقيدة مثل حرمة دعاء لغير الله والاستغاثة بالألياء و الصالحين.

تأسيسه بمدرسة نظامية في جالكعيو:

ومن بين نشاطه الدعوي تأسيسه بمدرسة سماها بـ ” مدرسة العروة الوثقى” وأخذ اسمها من قول الله تعالى { ومن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا افصام لها}، وقد استمر الشيخ على هذا المنوال يقوم على نشر العلم وإيصال الكلمة عبر الحلقات في البيوت وفي المدرسة النظامية ، وقد بلغ عدد من دخل في المدرسة المشار إليها قرابة سبعين طالباً ، فكان يكتب لهم الدروس في السبورة وينقلها في الدفاتر لعدم توفر الكتب في ذلك الوقت لديهم، وبعض فترة وجيزة أحسّ الشيخ بأنّه ظهر بعض البوادر فيما كان يتمناه قد ظهر في الأفق، غير أنّ نتيجة ذلك أصبحت بأن يعارض بعض أهل المنطقة ولاسيما بعض الشيوخ الصوفية الذين كانوا قادة للناس لما كان يجري في المدينة من تحركات غير مستحسنة بنسبة لهم ، واستطاعوا بتجميع الناس بما فيهم المشائخ وقادة الناس والتجار في المدينة فتشاروا فيما ظهر في الساحة من فعل بعض السفهاء – وقصدهم الشيخ نور الدين وطلابه – الذين يريدون أن يبدلوا دينهم وعقيدتهم وأن يظهروا في الأرض الفساد، وقد تمخض الاجتماع بعض القرارات الصعبة بحيث قرروا أن يقتل كلّ واحد قريبه، ولكن الله سبحانه وتعالى تنفذت إرادته ولم يتم تنفيذ تلك القراراتولله الحمد والمنّة.

رحلة الشيخ نور الدين إلى الديار المقدسة:

ولم تتوقف رحلات الشيخ التعليمية الدينية وقد اشتاقت روحه الذهاب إلى منطقة الحجاز وخاصة الحرمين الشريفين مكة المكرمة والمدينة المنورة، وبدأ رحلته عن طريق البحر ولكن عبر ميناء بربرة بعد أن قطع مسافة طويلة من مقره الأخير في جالكعيو، ومن ميناء بربرة وجد سفينة تبحر نحو مدينة عدن في اليمن، وقبل الوصول إلى عدن تحدث الشيخ قصة وقعت في السفينة وفي خضم البحر وقال في ذلك القصة: ” وأثناء الرحلة هاجنا الموج وغشينا كالظلل واستغاث بعض أهل السفينة بأوليائهم، ولم يكن بيني وبينهم معرفة، ولكني لم أتمالك نفسي فقتُ أدعوهم إلى توحيد الله وأنهاهم عن فعلتهم التي تؤدي إلى الاشراك مع الله ،فعجبوا بي، وقد بينت بعض الأمور المهمة في الدين مثل أنّ الدعاء والاستغاثة لله سبحانه وتعالى وحده دون غيره من الخلق مهما كان ، واستعنت في ذلك بعض النصوص من الكتاب والسنة مثل قوله تعالي: { أدعوني أستجب لكم} وقوله { فادعوا الله مخلصين له الدين} وقوله { فلا تدعوا مع الله أحداص}  وقوله { إنّ الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم فادعوهم ، فليستجيبوا لكم إن كنتم صادقين …} ، وما إلى ذلك من النصوص والآيات التي توضح إفراد الله بالعبادة. وقد أخبر فضيلة الشيخ رحمه الله بأنّه أخبر لهم بأنّ المشركين الأولين كانوا يخلصون الدعاء لله تعالي في مثل هذه الحالات، وفقد قال الله تعالى في ذلك الشأن : { فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين، فلما نجاهم إلى البر إذاهم يشركون}، وقال تعالى { وإذا غشيهم  موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين}، وغير ذلك من النصوص مما يبين أنّ الشيخ نور الدين علي بن أحمد كانت لديه خلفية في ذلك الأمر قبل أن يصل إلى منطقة الحجاز التي كانت تهيمن مظلة الشيخ محمد عبد الوهاب ودعوته ضد الخرافات والخزعبلات ، وكذلك قبل أن يصل إلى اليمن ولاسيما مدينة عدن التي كانت تحتضن العلماء الكثر أمثال الشيخ محمد العبادي وتلميذه الشيخ محمد سالم البيحاني كما أشرنا في رحلة الشيخ الأولى لليمن، مما يدل على ذلك بأنّ الشيخ تلقى مثل هذه التعليمات في بلده الصومال وخاصة منطقة الشمال الشرقي، ويستطيع كل واحد أن يلاحظ في ذلك عند تتبع رحلة الشيخ العلمية وفي الحلقات المساجد والأروقة العلمية التي مرت به في مرحلة طلب العلم. واختتم الشيخ حديثه بأنّ هناك من أهل السفينة من هدى الله وقبل دعوة الحق وهو القلة، ومنهم من رفض واستمر على طريقته السابقة، وقد نجانا الله من فضله عن الغرق ومشكلات البحر، ونزلوا كلهم عدن ، ولكن أثر هذه الرحلة لم تنتهي في نفسية الشيخ وكتب مقالاً طويلا عن ذلك لنشرها في الجرائد،  ثم ظهر له طبعها برسالة مستقلة سمّاها ” القول السديد في النهي عن التنديد” والتي طبع فيما بعد ، وسوف نتناول ذلك عند مجهودات الشيخ العلمية  والثقافية فيما بعد إن شاء الله.

وللحديث له البقية.

 

د/ محمد حسين معلم علي

من مواليد مدينة مقديشو عام 1964، أكمل تعليمه في الصومال، ثم رحل إلي المملكة العربية السعودية ليواصل رحلته العلمية حيث التحق بجامعة أم القرى قسم التاريخ الإسلامي حيث تخرج في عام 1991م، ونال الماجستير بنفس الجامعة في عام 1998م ،كما واصل دراسته في كل من السودان والنرويج، حيث نال درجة الدكتوراة بجامعة النيلين عام 2006م، أما في مملكة النرويج فقد تخصص بالدراسات التربوية وكذا الثقافات واللغات المتعددة في جامعة همر بالنرويج. وعمل أستاد التاريخ والحضارة الإسلامية في الجامعة الإسلامية في مقديشو - الصومال، وهو عضو في عدد من المنظمات المحلية والإقليمية والدولية، أصدر "ديوان الشاعر بعدلي" عام 2002م ، و"الثقافة العربية وروّادها في الصومال" عام 2010م، وله عدة بحوث أخرى، يقيم الآن بالنرويج .
زر الذهاب إلى الأعلى