أحلام ثقافية (ركن إسبوعي) عباقرة لهم أصول في منطقة القرن الإفريقي 10

تابع بترجمة الشيخ محمد عبد الله الصومالي ” محدث الحجاز”

وقد ذكرتُ في الحلقات الماضية نبوغ الشيخ في علم الحديث ودروبه حتى تميز – رحمه الله – بمعرفة علم رجال الحديث، إذ كان بارعاً متفنناً فيه، وخاصة رجال جامع الصحيح للبخاري، وقد وضع أحد طلابه وهو الشيخ فهد الكشي كتيباً سماه: “المفيد في الرجال المذكورين في صحيح البخاري”، يتحدث عن طريق تمييز أسماء الرجال المشتبه بناء على ما استفاده من حلقة الشيخ العلمية ، وكان يريد أن يتسع هذا العلم إلى أوسع مجالس العلم في الحجاز وغيرها، الجدير الذكر فإن الشيخ محمد بن عبد الله الصومالي أخبرني بأن الشيخ فهد الكشي  هذا كتب ترجمة مستفيدة عنه ساقها من عند نفسه دون أن يأخذ الإذن مني ولما طلب مني أن أكتب له تقديماً لرسالته اشترطتُ أن يحذف تلك الترجمة الطويلة وأن يضبط الرسالة ويقتصرها، وهو مما اضطر الشيخ فهد فعلها، وقد اقتنيت هذه الرسالة فرأيتها كما ذكر الشيخ محمد بحيث كتب له تقديماً عنارة عن فقرة واحدة يعطي الإذن والإجازة للرسالة. ولا شك أن تواضع الشيخ وعدم حبه الظهور أحال أن ينطلق قلم الشيخ فهد إلى آفاق بعيدة بل وأحجمه مما كانت تهفوا إليه نفسه إلى دائرة ضيقة لم يكن يتمناها أو يحلمها من إفشاء هذا العلم بطريقة أوسع مما هو اليوم في رسالته المذكورة، ومع هذا كله فلا زالت هذه الرسالة فريدة من نوعها وتحمل في طياتها فوائد ناذرة جمة لها علاقة بالحديث وعلومه ولاسيما علم الرجال المشتبه بهم وكيفية التمييز بين تلك الأسماء والكنى الواردة في مجاميع الحديث.

ونبوغ الشيخ محمد عبد الله الصومالي في مجال الحديث وعلومه لم تكن تختفي على جهابذة أهل العلم في عالمنا الإسلامي وهذا العلامة الشيخ مقبل بن هادي الوادعي صاحب المدرسة العلمية المعروفة في القطر اليمني كان ممن نهل معين الشيخ الصافي الذي لم يكن فيه كدر ولا هدر، ولا شك أنّ علو مكانة الشيخ محمد عبد الله الصومالي وشهرة حلقاته أدى إلى أن تتزاحم تلك الجموع من أهل العلم كالشيخ المقبل المذكور علماً أنه – أي الأخير- ترك بسمات واضحة من خلال مدرسته العلمية المعروفة ليس في اليمن فحسب وإنما من أنحاء أخرى من العالم بحيث وفدت وجوه كثيرة من طلبة العلم على مقر الشيخ في اليمن تتلقى العلم علي يديه ونفع الله بهم ثم لما رجعت إلى أقطارهم نشروا العلوم والتي تلقوا عنه في اليمن وخاصة عند شيخهم مقبل، ومن بين هؤلاء جموع من أبنائنا أهل الصومال الذين يتميزون علو كعبهم في مجالات كثيرة من أصول العلم بل وتمكنهم في مجالات العلوم الشرعية المعلقة بالكتاب والسنة النبيوية وكذا العقيدة الصحيحة.

وقد ذكر الشيخ مقبل الوادعي مكانة شيخه العلمية وخاصة في مجال علم الحديث وأشار في كتابه “المقترح في علم المصطلح محدثاً في الرحلات العلمية وحرص طلبة العلم إلى مجالس العلماء قائلاً ” وقد ألف الخطيب -رحمه االله تعالى- كتابفي الرحلة، فإن تيسر له أن يرحل إلى أهل العلم، ويجالس أهل العلم،فمجلس واحد ربما يكون خير من قراءة شهر، ويا سبحان االله لا تزال عبارة علمائنا الذين سمعنا منهم واستفدنامنهم، في أذهاننا إلى الآن فجزاهم االله خيرا، فلا أزال أذكر من شيخنا محمد بن عبداالله الصومالي -حفظه االله تعالى-:إذا رأيت شعبة عن عمرو فهو ابن مرة، وإذا رأيت سفيان عن عمرو فهو ابن دينار، وإذا رأيت عبداالله بن وهب عنعمرو فهو ابن الحارث، وهكذا إذا جاء سفيان في السند في “صحيح مسلم” في الثالث أي: بينه وبين مسلم اثنان،قال: في الغالب بأنه سفيان الثوري، وإذا جاء في “صحيح مسلم” بينه وبين مسلم واحد، قال: فالغالب أنه سفيان بنعيينة. لا أزال أذكر مثل هذه الفوائد التي استفدناها منه حفظه االله تعالى، …” [1] انتهى. وكل من ترجم للشيخ مقبل بن هادي الوادعي الذين أشاروا مشائخه جعلوا الشيخ محمد بن عبد الله الصومالي أول مشائخه في الحجاز بحيث درس عنده سبعة أشهر أو أكثر واستفاد منه كثيرًا في علم الحديث ومعرفة رجال الشيخين، وكان يقول عنه الوادعي: لعل أمثاله– أي الشيخ محمد بن عبد الله الصومالي – قليل في معرفة رجال الشيخين أو ليس له مثيل. وفيما سبق أشرنا بأن الشيخ مقبل الوادعي كانت له مدرسة أنشأها في بلدته دماج في اليمن وهي  مدرسة علمية سلفية سماها بدار الحديث يفد إليها الطلاب من أنحاء اليمن ومن بلدان أخرى، وتخرج على يديه شيوخ أنشئوا مدارس في عدد من مناطق اليمن.

ولم يكن الشيخ مقبل الوادعي الوحيد الذي أشار تربع الشيخ محمد عبد الله الصومالي في علم الحديث ، وكان هناك من سار على الدرب نفسه مثل العلامة المحدث الطحان الذي وصف الشيخ محمد عبد الله الصومالي بأنه “أعلم الناس بعلم الحديث في منطقة الحجاز”، لأنه وسع الحديث الكثير، إذ كان يضبط الضبط الصحيح، ومن هنا استحق أن يطلق عليه محدث الحجاز. ومن الذين استفادوا من حلقة الشيخ في الحرم المكي الشيخ أبي عبدالرحمن عبدالله بن عمر بن مرعي بن بريك، ويذكر أبو عبد الرحمن شيخه محمد بن عبد الله الصومالي على رأس شيوخه في مكة بل وأبرزهم ويقول : ” شيخ شيخنا مقبل رحمه الله وهو الشيخ محمد بن عبد الله الصومالي” كما يذكر أنه استفاد من حلقتهفي علل ابن المديني  – أي علي بن أبي المديني ، والمصطلح وأبواب من البخاري”[2]

ومن طلابه أيضاً أبو عبد الرحمن الشيخ عبد الله بن الشيخ عمر الصومالي الأغاديني صاحب كتاب “مسيرة الإسلام

في الصومال الكبير” وأحد الدعاة إلى الله في منطقة القرن الإفريقي بدءاً بجيبوتي الذي مكث بها سنيناً طويلاً بل وصاهر علمائها وقادتها ثم في جمهورية الصومال أكثر من مكان ثم في منطقة الأغادين في الصومال الغربي.

وممن نهل من مجالس الشيخ محمد عبد الله الصومالي أحد السياح إلى الله وهو صاحب السماحة الشيخ محمد خير بن عمران حسن الصومالي الرحنويني اللوايي رحمه الله، وكان طوافاً وناشراً للدعوة الإسلامية في كثير من أنحاء المملكة العربية السعودية بدءاً بمسجد جاره مسجد الزهيري في حي الملاوي بمكة المكرمة ومساجد أخرى في المملكة ، وكثير ما كان يزور بحي كيلو سبعة بمدينة جدة حيث كان أغلب السكان من أهل الصومال، وكان لدى الشيخ تسريحاً يسمح له الدعوة من قبل صاحب السماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز كواعظ مسجل من مكتب الدعوة والإرشاد. كما كان الشيخ محمد خير يقوم بنشر الإسلام في أنحاء مختلفة من إفريقيا بدءاً بالسودان وخاصة منطقة كسلا حيث أسس معهداً للعلوم الشرعية ، وقد أخبرني الشيخ محمد خير هذا بأنه أتاني إلى مكة جموع من طلبة العلم من معهد كسلا ويلتقي في كل موسم من مواسم الحج هنا من أصبح علماءاً وقادةً نفع الله بهم الأمة وبعض من نال بالدرجات العليا في الجامعات ولله الحمد والمنة. وفعلاً كنا نلتقي في رحاب جامعة أم القرى عدد كبير من بعض إخواننا تخرجوا في هذا المعهد وكان أغلبهم من إربيريا وكثير منهم نالوا درجات عليا في البحث العلمي من الماجستير والدكتوراه. وقد عمل الشيخ محمد خير بن عمران هذا أيضا أماكن أخرى في الغرب إفريقيا ناشراً للدعوة الإسلامية ، كما كان له جولات وصولات في داخل المملكة العربية السعودية يلتقي المسلمين ويحاضرهم في المساجد، وكذلك كان – رحمه الله – يقوم زيارات موسمية في منطقة القرن الإفريقي في جيبوتي والصومال، وكان فضيلته يتميز بأنه يجيد اللغة الصومالية وبلهجاتها بحيث كان يركز دعوته في داخل الصومال في المحافظات التي يتناولها الناس بلهجة الماي.

ومن طلابه الذين نهلو من منهل الشيخ المحدث محمد بن عبد الله الصومالي فضيلة الشيخ أبو بكر بن علي الدغلي من أهل دافيد الصومالي أحد العلماء الصومال المجهولين الذين توفوا في وقت مبكر من عمرهم، وقد سافر في شبابه إلي الحجاز في بداية السبعينات و إلتحق بعض الحلقات العلميةومن بين ذلك الدروس التي كان يلقي الشيخ محمد بن عبد الله الصومالي، ولما اشتدّ ساعده انضم ضمن طلبة العلم بالجامعة الإسلامية في المدينة المنورة بالمملكة العربية السعودية. ولم يهدأ بال إلى أن التحق بالدراسات العليا ، ولكن فهذه المرة في جامعة الملك عبد العزيز ( التي تحولت فيما بعد إلى جامعة أم القرى بمكة المكرمة )، كلية الشريعة والدراسات الإسلامية ، فرع الكتاب والسنة ، بمكة المكرمة. وكان خلال وجوده في مكة يحرص على حلقات الشيخ محمد بن عبد الله الصومالي سواء في تلك الحلقات في المسجد الحرام أو في الحلقات الخاصة التي كان يعقد الشيخ في بيته واستفاد منه ما يتعلق بالحديث وعلومه. وفور حصوله هذه الدرجة وتخرجه رجع إلى الصومال ناشرا العلم والمعرفة ، وقد تعرفت بفضيلته رحمه الله في بداية الثمانينات حيث سمعت خبره وزرت مقر إقامته في مقديشو، وقد قرأ علينا كتاب نخبة الفكر في مصطلح الحديث، غير أنه اشتهر بنشر علم التوحيد ومحاربة البدع والخرافات وكان رحمه الله دائما ضد الطرق الصوفية وكانت دعوته تركز على ذلك المجال.  وقد استضافني في تلك الفترة وأنا في ريعانة شبابي حيث زرت بيته وتغذينا معا ، وكان من استغرابي بأنه كان متزوجا بزوجتين وقد جمع في بيت واحد ليس بينهم مشكلة. وقد رأيت تأليفاً وضع رحمه الله وهو كتاب مرويات أبي بكرة – رضي الله عنه – في مسند الإمام أحمد، علما أن هذا التأليف عبارة عن رسالة علمية نال الشيخ من خلالها درجة علمية. وفي الختام يبنغي أن نشير هنا إلى أنه من الصعب الحصر أو الإشارة  إلى كل الذين أخذوا العلم على يد الشيخ محمد عبد الله الصومالي حيث كان يحرص عليه خلق كثير حتى بعض الأمراء مثل الأمير ممدوح بن عبد العزيز الذي تولى فيما بعد على رعاية الشيخ عندما مرض وحتى عند وفاته ، ومن هنا نستطيع القول بأن الشيخ رحمه الله ترك بسمات علمية ودعوية في أنحاء كثيرة من هذا العالم بسبب صبره وإخلاصه للدعوة وتجرده عن حب الذنيا وملذاتها، والمعروف أنّ صبر العلماء على نشر العلم وعكوفهم في الحلقات بارك الله في علمهم ومجالسهم كما كان الشيخ محمد يواظب على حلقاته العلمية دون ملل حوكلل حتى عندما كبر سنه وأصابه بعض الأمراض، رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه في فسيح جناته آمين.


 أبو عبد الرحمن مقبل بن هادي الوادعي : المقترح في أجوبة أسئلة المصطلح ص 76، الطبعة الثانية، [1]

[2]انظر  .http://dar-sh.com/about-syaikh/

 

د/ محمد حسين معلم علي

من مواليد مدينة مقديشو عام 1964، أكمل تعليمه في الصومال، ثم رحل إلي المملكة العربية السعودية ليواصل رحلته العلمية حيث التحق بجامعة أم القرى قسم التاريخ الإسلامي حيث تخرج في عام 1991م، ونال الماجستير بنفس الجامعة في عام 1998م ،كما واصل دراسته في كل من السودان والنرويج، حيث نال درجة الدكتوراة بجامعة النيلين عام 2006م، أما في مملكة النرويج فقد تخصص بالدراسات التربوية وكذا الثقافات واللغات المتعددة في جامعة همر بالنرويج. وعمل أستاد التاريخ والحضارة الإسلامية في الجامعة الإسلامية في مقديشو - الصومال، وهو عضو في عدد من المنظمات المحلية والإقليمية والدولية، أصدر "ديوان الشاعر بعدلي" عام 2002م ، و"الثقافة العربية وروّادها في الصومال" عام 2010م، وله عدة بحوث أخرى، يقيم الآن بالنرويج .
زر الذهاب إلى الأعلى