جيبوتي.. العمق الأفريقي للجزيرة العربية

يعتب الجيبوتيون على الدول العربية ودول الخليج خاصة لعدم تقديرهم الكافي للأهمية الاستراتيجية لبلدهم، الذي يمكن أن يصبح موقعا متقدما يسهم في تعزيز أمن الخليج والجزيرة العربية ومواجهة تحديات الإرهاب والقرصنة

 أكتب هذا الأسبوع من جيبوتي، البلد العربي الصغير في مساحته وعدد قاطنيه، المحدود في موارده، والعملاق في أهميته الاستراتيجية. ومما يميز جيبوتي كذلك أنها تمثل واحة من الاستقرار والسلام في القرن الأفريقي، حين تُقارن بجيرانها في الصومال وإريتريا واليمن وكينيا وغيرها، مما يجعل الحفاظ على استقرارها وأمنها ضرورة استراتيجية لمواجهة تحديات الإرهاب والقرصنة والنزاعات الأهلية في القرن الأفريقي، فضلاً عن اليمن.

جيبوتي بلد صغير: تبلغ مساحته (23) ألف كيلومتر مربع فقط، ولا يتجاوز عدد سكانه (900) ألف نسمة، وهم متجانسون دينيا (يتبعون مذهب الإمام الشافعي) ومتنوعون قبلياً وعِرقيا. يتكلمون العربية والفرنسية وعدداً من اللهجات المحلية.
تنطلق الأهمية الاستراتيجية لجيبوتي من تربعها على الضفة الغربية لمضيق باب المندب، شريان التجارة الدولية والإقليمية، ويمتد ساحلها على خليج عدن والبحر الأحمر أكثر من (300) كيلومتر، تبدأ جنوباً من حدود الصومال وتصل إلى حدود إريتريا في الشمال. ولذلك فإن دورها رئيسي في حماية المضيق ومراقبة المناطق المحيطة به، خاصة في ضوء ضعف إمكانات الحكومات الأخرى في المنطقة وعدم قدرتها على توفير الحماية للمضيق، خاصة بعد تدهور الوضع في اليمن بعد أن أصبحت ميليشيات الحوثيين قاب قوسين من المضيق، بعد أن استولت على ميناء الحديدة وغيرها وعلى بعض معدات وعتاد القوات المسلحة اليمنية. 
كما تنبع الأهمية الاستراتيجية لجيبوتي من كونها المنفذ البحري الوحيد أو الرئيس لعدد من الدول الأفريقية التي ليس لديها إطلالات بحرية، مثل إثيوبيا وجنوب السودان، أو الدول التي لا تتوافر فيها موانئ عميقة، مثل السودان وإريتريا واليمن. فجيبوتي مركز مهم لتجارة الترانزيت، حيث يتمكن ميناؤها العميق من استقبال السفن العملاقة التي لا تستطيع أن ترسو في الموانئ الضحلة لبعض الدول المطلة على البحر الأحمر. ويحتوي خليج جيبوتي على موانئ عدة تخدم المنطقة بأسرها، حيث تشكل صادرات وواردات إثيوبيا معظم الصادرات والواردات التي تمر بتلك الموانئ. 
فاستقرار جيبوتي إذن مطلب استراتيجي للدول العظمى ودول المنطقة على حد سواء، ولذلك تجدها تعج على صغرها بالقواعد العسكرية ومراكز الرصد والاستخبارات وجمع المعلومات. وكلها يهدف إلى حماية حرية الملاحة في باب المندب، ورصد تحركات الجماعات الإرهابية ومكافحة القرصنة.
كانت جيبوتي مستعمرة فرنسية أكثر من 100 عام. وبعد أن نالت استقلالها من فرنسا في عام 1977، استمر الوجود العسكري الفرنسي، ثم تبعه الأميركي، حيث القاعدة الأميركية هنا هي القاعدة الوحيدة في القارة الأفريقية بأجمعها، مما يؤشر إلى مكان جيبوتي في استراتيجية الولايات المتحدة تجاه القارة الأفريقية والمحيط الهندي وجنوب الجزيرة العربية.
في مايو 2014، جددت الولايات المتحدة وجيبوتي لمدة (20) عاماً الاتفاقية التي تنظم علاقات القاعدة الأميركية (وتُسمّى لِمونيير كامب) بجيبوتي وقال الرئيس أوباما وقتها “من الواضح أن كامب لمونيير مهم لأهداف الولايات المتحدة ليس فقط في القرن الأفريقي، بل في المنطقة بأسرها”. ووصف الرئيس الجيبوتي إسماعيل عمر جله علاقة بلاده بأميركا بأنها “شراكة استراتيجية”.
ويعمل في القاعدة، التي تقع قرب مطار جيبوتي وتبلغ مساحتها نحو مليوني متر مربع، نحو (4000) عسكري أميركي في الوقت الحاضر، مقارنة بنحو (300) فقط منذ عشر سنوات، حين كان حجم القاعدة لا يتجاوز (320) ألف متر مربع. وبعد توقيع الاتفاقية، أعلن البنتاجون عزمه على صرف نحو مليار دولار لتطوير البنية التحتية للقاعدة. وبالإضافة إلى الوجود الفرنسي والأميركي، تحتفظ ألمانيا وغيرها من الدول الأوروبية بوجود أمني في جيبوتي، كما تفعل اليابان وغيرها. أما الصين فلا شك أن لها اهتمامات استراتيجية في المنطقة، ولكنها تبدو مركزة على الاستثمار حالياً، حيث تحوز الصين على حصة الأسد من محفظة الاستثمار الأجنبي. أما الروس فلم يتمكنوا حتى الآن من إقناع جيبوتي بإنشاء قاعدة لهم، وهو ما يبدو مستبعداً تماما في ضوء التوتر في علاقات روسيا مع المجتمع الدولي. 
على الرغم من العلاقات التاريخية الوثيقة بين الجزيرة العربية وجيبوتي، لم تهتم الدول العربية كثيراً بجيبوتي في العصور الحديثة، على الرغم من عضوية جيبوتي في الجامعة العربية منذ استقلالها في عام 1977. والاستثناء الوحيد هو دول الخليج التي قدمت ولا تزال مساعدات تنموية وإنسانية كبيرة لجيبوتي، حيث بدأت صناديق التنمية الخليجية منذ عقود في تقديم المساعدات التنموية لجيبوتي وتطوير بنيتها التحتية. وتشكل الاستثمارات الخليجية الخاصة في جيبوتي نسبة لا بأس بها من حجم الاستثمار الكلي، فـ(موانئ دبي) وحدها استثمرت نحو (400) مليون دولار لبناء ميناء للحاويات يخدم المنطقة بأسرها، ويوظف نحو (1000) مواطن جيبوتي. 
ويعتب الجيبوتيون على الدول العربية ودول الخليج خاصة لعدم تقديرهم الكافي للأهمية الاستراتيجية لبلدهم، الذي يمكن أن يصبح موقعاً متقدماً يسهم في تعزيز أمن الخليج والجزيرة العربية ومواجهة تحديات الإرهاب والقرصنة وغيرها.
في قمة مجلس التعاون في ديسمبر 2013، أقر المجلس منحة غير مستردة لجيبوتي بقيمة (200) مليون دولار، تُصرف على مدى خمس سنوات على تمويل المشاريع التنموية. وتقوم حالياً الجهات المختصة في الدول الأربع المساهمة في هذه المنحة (الإمارات العربية المتحدة، المملكة العربية السعودية، دولة قطر، دولة الكويت) بالعمل مباشرة مع نظرائها في جيبوتي لصرف هذه المنحة، بعد أن تم الاتفاق على معظم المشاريع التي ستُستخدم المنحة لتمويلها.
وفي البُعد الاستراتيجي يقدر مجلس التعاون أهمية جيبوتي في منطقة القرن الأفريقي، وفي مكافحة القرصنة والإرهاب. وقد ازدادت هذه الأهمية مؤخراً بعد توسع الميليشيات الحوثية في اليمن وسيطرتها على موانئ رئيسية في اليمن. وحسب تقارير سمعتها في جيبوتي، فإن الميليشيات الحوثية نشطة في الاستيلاء على الجزر اليمنية التي لا تبعد كثيراً عن مضيق باب المندب، وهو إن صحّ تطور خطير يتطلب استجابة سريعة للتعامل معه.
وللحديث بقية.

المصدر- الوطن أونلاين

زر الذهاب إلى الأعلى