السلطان يوسف علي ومنطقة مجريتنيا…الحلم الذي كاد أن يتحقق (3-10)

السلطان يوسف والصراع مع النظام السياسي التقليدي في مجيرتينا

ولد يوسف علي يوسف ابن سلطان يوسف  محمود في عام ١٨٤٥ تقريباً وينحدر من أسرة ملكية، ولكنه لم يكن  الوريث الشرعي المباشر للحكم إذ أن النظام في الحكم كان يعتمد على النظام الأبوي الوراثي التقليدي، يعطي الأحقية الملك الابن الأكبر  وينحصر في فخذ بهدر، وهو ينتمي  لفخذ بهيعقوب، وجده محمود حوادني هو من استحدث حسب بعض الروايات الشعبية لقب السلطان،  فحسب النظام التقليدي والعرفي يسمى زعيم القبيلة في المجيرتينيين بقرالملكويمثل القطب الرحي الذي يشد حوله القبيلة المجيرتي هو ليس فقط ملك مجيرتين إنما هو  في العرف ملك هرتي أو الدارود كلهامع تطور العلاقات والاتصالات الخارجية خاصة مع العالم الإسلامي  والتحول السياسي والاجتماعي والثقافي الذي أحدثته هذه الاتصالات ذات الطابع الديني والتجاري  في المجتمع المجيرتيني، بدأت تأخذ بعدا سياسيا وأصبح نظام الحكم السياسي يتطور ويخرج تدريجيا من الموروث التقليدي العرفي، وتتغير هيكلة وتركيبة المجتمع بسبب ازدهار التجارة، وشهدت الحواضر نهضة عمرانية وتشكُلل التجمعات السكنيةواصبحت تشييد وبناء القصور والبيوت الحجرية ظاهرة ملفتة في المجتمع المجيرتيني خاصة في الساحل،   وتحول كثير من المجتمع من البوادي إلى الحواضر،  والبعض هاجر الي الخارج واستوطن في بلدان عدة في الجزيرة العربية وزنجبار والهند وتمكن في الانخراط داخل نسيج المجتمعات التي يعيشون بين ظهرانيهم،  وتكونت فئة مثقفة لها رصيد من الثقافة الإسلامية والعربية كثير منها قد درست في الجزيرة العربية وعلى سبيل المثال لا الحصر: الشيخ إدريس، عاش الشيخ إدريس عدة سنوات في جدة وكانت له علاقات واسعة في الدول الإسلامية وأصبح في ما بعد المبعوث الخاص أو سفيرا لسلطان مجيرتينا وزار استنطنبول والقاهرة وزنجبار ودارالسلام بمهمة دبلوماسية من قبل السلطان عثمان محمود وكانت له علاقة بالمفكر الحلبي السوري عبدالرحمن الكواكبي، والدبلوماسي محمد موسي مبعوث السلطان عثمان محمود في الخارج وله سفارات في عدن وجيبوتي ودار السلام وقد قال عنهم القنصل الإيطالي بستالوسا: “هؤلاءالصوماليون المتشددين الذين قضواسنوات بقرب مكة غالبا ما يكونون خطرين بالتأكيد احسن لنا ابعادهم من سواحل الصومالانتهى، والأديب والشيخ علي عبدالرحمن المجيرتيني الذي درس  وامضى عدة سنوات في الحجاز والعراق وبعد عودته حاول وبمساعدة من بعض زعماء القبائل اقامة امارة إسلامية في شمال شرق الصومال ومحاربة البريطانيين الذين كانوا يتحرشون الصياديين والسفن التجارية في البحر وعندما عجز عن مقاومتهم طلب مساعدة سلطان الشارقة، لكن للأسف لم يساعده معتذرا باعذار واهية،  ويذكر لنا أيضا المستكشف الإيطالي robecchi brichetti  الذي تردد عدة مرات في مجيرتينا وكتب عنها وعن أهلها الكثير في كتابه il paesi degli aromi طبيبا مجيرتينيا أو من قبيلة وورسنغلي اسمه الحاج محمد عثمان شرماركي  الذي درس الطب في الجزيرة العربية وكان يفتخر بانه درس كتاب القانون لابن سينا، وهناك أيضا فئة ارستقراطية تملك المال والجاه تريد احتكار التجارة والاستحواذ على المنافذ البحرية،  وتحاول التأثير على السلطة السياسية ومع هذه التطورات كان لا بد من خلق نظام حكم يلبى متطلبات الوقت ويواكب العصر ومتغيراته واستُحدث استخدام لقبسلطان عموم مجيرتينافي الخارج خاصة لدى سلاطين العرب ولدي الخلافة العثمانية وأما في الداخل يستخدم لقب بقر(الملك).

وبهذا التحول(سياسيا) أصبح نظام الحكم السياسي يبتعد شيئا فشيئا عن النظام التقليدي القبلي الهرمي ويقترب من النظام الحكم المركزي على غرار النمط المشيخات العربية في زمن ازداد الاحتكاك الصومالي العربى بسبب ارتفاع التبادل التجاري والرحلات الدينية، وأصبح تأثير العربي  واضحا و القي بظلاله على المجتمع المجيرتيني في كل مجالات الحياة اليومية.

 ومن جانب آخر ظهرت قوى ناشئة من التجار(سواقرون وعوليهان ومهري) والزعماء  تكتسب مكانة متزايدة في المجتمع وتعزز وجودها وتأثيرها من خلال هيمنتها علي الاقتصاد.

يوسف على كينديد كان رجل نشيط شجاع مغامر وخاض يوسف على كينديد صراعات مع الملك عثمان محمود ومع نظام الحكم السياسي والاجتماعي التقليدي وأحدث شرخا في نسيج المجتمع المجيرتيني، وأصبح هناك جناحان  في العشيرة التي يأتي منها الملك وهي عثمان محمود،  جناح تقليدي محافظ مع السلطان وكبار شيوخ العشيرة وفي مقدمتهم عم السلطان نور عثمان محمود يتعاملون الوضع السياسي والقوى الاستعمارية بحذر ويتوجسون منهم، يتمسكون بتقاليد وأعراف القبيلة مع حاجتهم إلى غطاء سياسي يحمي من تدخلات الخارج وكذلك تأمين وحماية الملاحة البحرية المحلية والدولية من والي  السواحل مجيرتينا والخارج، وكثيرا ما ترددوا في قبول الحماية الأجنبي نظرا لرفض القاعدة الشعبية والاجتماعية (التي كانت أساسا قاعدة بدوية) للأجنبي الكافر. وكان قرار القبول أو عدمه يرجع الي أعيان القبيلة وعلمائها ولا يمكن للسلطان وحده اخذ اي قرار سياسي أو عسكري دون الرجوع إلى القبيلة وأعرافها، وقراراته ليست ملزما على الفرد بل على القبيلة، والفرد يخضع للقبيلة وليس للسلطان،

 والجناح الآخر حداثي يريد التحرر من الأعراف والتقاليد أو على الأقل يريد توظيفها لتحقيق مصلحته وهو تحالف (بهيعقوبعوليهانوسواقرونمهري) يقودها يوسف على وتتلقى الدعم من التجار ومن العشائر الصغيرة خارج عشيرة عثمان محمود هذا التحالف بين بهيعقوب وعوليهان وسواقرون بالأساس كان موجودا في زمنعلي ardaabasle” والد يوسف وتربطهم علاقات تجارية ومصاهرة مبنية في المقام الأول على المصالح الاقتصادية والسياسية ويعتمد علي قاعدة اجتماعية حضرية.

 ويرجع جذور الصراع إلى أحقية الحكم بين  بهدر وبهيعقوب أولاد محمود حوادني واِبعاد بهيعقوب من حق الوراثة(الملك)وحصرها في فخذ بهدر، ويدور حول احتكار السلطة السياسية والسيطرة على التجارة و التحكم في منابع الثروة وتمثيل البلاد في الخارج لدى السلطات الإقليمية والدولية. يروي robecchi brichetti في كتابه il paese degli aromi تفاصيل حول هذا الصراع الذي تحول الى الاقتتال في داخل الأسرة دام خمس سنوات وانتهى بنفي يوسف على إلى المكلا في اليمن، وبدأت الحرب بمعنى أصحالقتالعند ما أراد سلطان عثمان محمود بناء قصر له في علولا التي يعتبر يوسف على كينديد من ممتلكاته الشخصية. يقول brichetti:

وفي عام ١٨٧٨ اراد الملك الشاب عثمان محمود وهو ما زال تحت وصاية عمه نور عثمان بناء قصر له في مدينة علولا (علولا أسسها علي اردابسلي والد يوسف على بمساعدة اصهاره سواقرون) اعترض يوسف علي بناء القصر معتبرا اعتداء على ممتلكاته، بعد فشل محاولة الصلح بينهما قرروالاحتكام بقوة السلاح، تحرك السلطان عثمان محمود ومعه ثلاث آلاف مقاتل من مدينة بندر زيدا لمهاجمة علولا،  ووقف على بعد عدة كيلومترات من علولا قبل بدء الهجوم لتحذيره وإعطاء فرصة للمراجعة كما هي العادة. يوسف بدوره تحرك من علولا على رأس ليس أكثر من ألف مقاتل، والتقى الفريقين في ساحة بندر فلك، يوسف يتراجع بسبب الفارق العدد لصالح السلطان عثمان الى علولا  ويتحصن في داخل قصره، والسلطان عثمان يتبعه ويحكم الحصار علي يوسف ومع ذلك إستطاع يوسف الثبات والمقاومة وإلحاق المهاجمين خسائر كبيرة، ويرفض السلام، ويقرر المغادرة من علولا. وبعد عدة أيام برفقة ستين بين اتباعه واقربائه في ثلاث سفن غادر الي عدن حيث استقبله حاكم عدن البريطاني وبقي عدن بضيافة الحاكم البريطاني ثلاثة أشهر وبعدها انتقل الي مكلا عندالنقيب عمر بن صالح بن محمد عبدالحبيب الكسادي حيث جنَّد مائة وعشرين مسلحامن المرتزقة وعاد إلى علولا، ونزل في منطقة بالموغ (bolmog) علي بعد ثلاث كم من علولا وارسل السفن المحملة بالبضائع التجارية إلى علولا لاشغال الناس وصرف الانتباء عن ما سيقوم به بعد قليل، وعند التأكد عن وصول السفن وانشغال الناس بها هاجم المدينة واستولي عليها بدون مقاومة تذكر.

ورفع علم المصريين فيها الذين هم في فلك بريطانيا خلافا للسلطان عثمان محمود  الذي كان يوالي للباب العالي ويخطب في المنابر باسم السلطان العثماني في إسطنبول، وبعد تدخل من وجهاء القبائل والعلماء اصطلح يوسف على مع غريمه السلطان عثمان محمود وتزوج الأخير من بنت يوسف عليعائشةوعُين نائب الملك لمدينة علولا.

  وتجدر الإشارة أنه في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي توالت ورود المستكشفين الأوروبيين في بلاد الصومال الذي كان غير معروف عند الأوروبيين.

وبسبب عدم وجود  حكم مركزي قوي وكيان سياسي موحد وجامع في الصومال تعامل هؤلاء المستكشفون مع رؤساء القبائل وعقدوا  معهم اتفاقيات تجارية ومعاهدات  باسم بلادهم كل على حدة واغلب المستكشفين يحطون رحالهم في منطقة مجيرتينا  {مثل الفرنسيين رافيول (raviol)،  وكابتن Giulian في البحرية الفرنسية، هذان الرجلان كتبا كتابات مهمة عن رحلتهما في الصومال ودونا في كتبهما معلومات في غاية الأهمية خاصة الأخير(gulian)، والإيطالي robecchi brichetti وأصبحت كتبهم مرجعا يعود اليهم الباحثون  في الشأن الصومالي، قبل دخول الاستعمار الأوروبي}،  باعتبارها مستقلة غير تابعة للقوى الإقليمية أو الدولية ومدخلا نحو مناطق شمال الصومال وقربها من عدن مركز تجمع المستكشفين الأوروبيين ومنها ينطلقون إلى شرق أفريقيا.

بدأت الاتصالات البريطانيين بمجيرتينيا مبكرا وفي عام ١٨٦٦ اتفقت بريطانيا مع سلطان محمود يوسف (ابو السلطان عثمان محمود) بوقف تجارة العبيد في أفريقيا، ولكن كان الاتفاقية التجارية الأولى التي وقعتها مجيرتينا  مع بريطانيا عبر مندوبها في عدن عام ١٨٧٩ والتي يتسلم ملك مجيرتينا بموجب الاتفاقية ٥٠٠ روبية سنويا مقابل حماية ورعاية مصالح بريطانيا والسفن التجارية في السواحل تحت نفوذ سلطنة مجيرتينا وكان يوسف ضمن الوفد المفاوض وقد سافر يوسف إلى الخارج عدة مرات في مهمات دبلوماسية أبرزها  اليمن وكانت تربطه علاقة وصداقة وطيدة  بنقيب مكلا عمر بن صالح بن محمد عبدالحبيب الكسادي الذي سيلعب دورا مهما في تهيئة  الارضية المناسب بين الإيطاليين ويوسف علي بشأن الحماية الإيطالية في سلطنة هوبيو ومجيرتينيا، وزنجبار  حيث هناك مؤثرين من عائلة يوسف في البلاط السلطاني في زنجبار وكانوا محل ثقة لدى سلاطين وأمراء تلك البلاد. يوسف على كينديد كان دبلوماسيا يمسك رأس خيوط الدبلوماسية المجيرتينة عقدا ونقضا وقد شارك في اغلب المهمات الدبلوماسية والمفاوضات في الخارج والداخل قبل انشقاقه عن السلطة المجيرتينة.

جمع يوسف علي في خلال وجوده في مدينة علولا  ثروة كبيرة من التجارة ومن الضرائب لكن الثروة الحقيقة جمعها من السفينة الفرنسية(meikon) التي غرقت في سواحل حافون عندما كان حاكما لعلولا، وهي كانت من بين أسباب النزاع مع سلطان عثمان محمود،  وأيضا مشاركته التجارية مع كبار التجارة في علولا وأصبح يمتلك سفنا تجارية كثيرة منها سفينته الفتح بقدرة استيعابية بثلاث الاف كيس والنصر بالفين كيس، يقومون سنويا رحلات من سواحل الصومال إلى بومباي، وقوارب الصيد أخرى،

لكن تأبى نفس يوسف الطموحة  أن تكون محاصرة في داخل قرية صغيرة وممنوع من التواصل مع الداخل وتحقيق حلمه بأن يصبح يوما سلطانا على كل المجيرتينيين وشعر بعزلة سياسية، ومن جهة أخرى استطاع يوسف  تكوين حلف سياسي من عدة قبائل صغيرة ولكنها مؤثرة اقتصاديا واجتماعيا، أبرزها سوا قرون وعوليهان ومهري، ولا بد هنا بالتذكير بأن هناك بعض الأفراد والشخصيات المؤثرة المنتمين  لبهيعقوب ولهم ارتباطات في الخارج خاصة في عدن وزنجبار وأيضا في مناطق أخرى في الصومال مثل كسمايو ومقديشو ومركة ولهم كلمة مسموعة لدى هذه المناطق ساهموا في بلورة فكرة توسيع مناطق نفوذ سلطنة مجيرتينا إلى مناطق خارج مجيرتينا والتي لا تخضع لأي سيطرة ونفوذ لقُوي إقليمي أو دولية أو حتى محلية، كما حاول من قبل الشيخ علي مجرتيني في مركة. واستطاع يوسف على كينديد نسج شبكة من الرجال الكبار الذين تربطهم به المصالح الاقتصادية كالتجار وزعماء القبائل والعلماء والذين كانوا على خلاف مع السلطان عثمان محمود، ساعدته في تحقيق حلمه بإقامة كيان سياسي مستقل خارج مجيرتينا. وبدأ بالفعل يفكر في إيجاد منطقة مناسبة  لاقامة سلطنته وقد طُرح عدة مناطق من بينها سقطرة وممباسا وقد كُلف المهري علي يوسف لهذه المهمة، وفي الأخير وقع الاختيار على هبيو منطقة خالية من أي وجود كيان سياسي او عسكري ولا تخضع لأي سيطرة ونفوذ لقُوي إقليمي(سلطنة زنجبار)أو محلية و بايعاز  وتنسيق من شخصيات من قبيلة هرتى في كسمايو  من بينهم: علي شروع الذي يدعي بأنه  سلطان عشيرة عثمان محمود في كسمايو من بهيعقوب، وياسين احمد زوج بنت السلطان سعيد برغش ومترجم للإيطاليين كانوا على علم ما يحدث في الأروقة الدبلوماسية الزنجبارية والغربية(بريطانيا وإيطاليا وألمانيا) في تحديد مناطق نفوذهم في الصومال وعلموا أيضا أن سلطان زنجبار يعتزم ضم منطقة ما بين عيل هور وهبيو الي مناطق نفوذه بطلب من تاجر وقريب من سلطان زنجبار من قبيلة ابقال يقال له مؤمن أويس ذو نفوذ اقتصادي وسياسي في قرية عيل هور وسيأتي الحديث عن هذا الرجل وقرية عيل هور عند الحديث عن هبيو.

خالد إبراهيم

باحث في تاريخ الصومال
زر الذهاب إلى الأعلى