أحلام ثقافية(ركن أسبوعي).عباقرة لهم أصول في منطقة القرن الإفريقي (9)

تابع بمقالة ” مُحدّث الحجاز الشيخ محمد عبد الله الصومالي 3 “

لعل القراء الكرام لحلقتين سابقتين يتساءلون – وهم على الحق-  أين موقع فضيلة الشيخ المحدث محمد عبد الله الصومالي وعبقريته في الثقافة ودوره في نشر العلم ودروبه رغم أننا تناولنا ما يكفي عن ترجمته رحمه الله. ولكي نجلي قليلاً لهذا الأمر نركز هذه الحلقة على جهود الشيخ في الحلقات العلمية في الحجاز ولاسيما في أروقة الحرمين الشريفين لأنّ فضيلته كان منشغلاً بتحصيل العلم وتلقى العلماء عندما كان طالب العلم، كما كان متفرقاً لنشر نور النبوة وقواعد التمييز بين الصحيح والسقيم ، والقويم والمعوج عندما اعتلى على كراسي العلم والمعرفة في الحرمين الشريفين. ومن هنا فلا يستغرب حين يؤكد أحد طلابه– وهو الشيخ أحمد قاسم الغامدي كما سبق ذكره – بأنّ فضيلته ”  كان مرجعاً في علم الحديث، ومنهلاً للطلاب….”.

ويؤكد ذلك أيضاً أحد طلابه وهو فضيلة الدكتور عمر بن محمد السبيل إمام وخطيب الحرم الشريف المكي في مستهل ترجمته – التي أشرنا في الحلقات السابقة حيث قال: ” فإن فضيلةَ الشيخ محمد عبد الله الصُّومالي -رحمه الله- المدرس بالمسجد الحرام، وبدار الحديث الخيرية بمكة المكرمة؛ عالِم جليل، ومُحدِّث ضليع، حضرتُ دروسَه في المسجد الحرام أوائل سني الطلب في “صحيح البخاري” وغيره في عام (1397-1398هـ)، و استفدتُ من علمه، وحسن أدبه وخلقه؛ فقد كان -رحمه الله- متمكنًا في علم الحديث ومصطلحه، وله في علم الرجال والأسانيد -على وجه الخصوص- قدم راسخة، وباع طويل، مع مشاركة حسنة في سائر العلوم الشرعية والعربية، وقد نفع الله -تعالى- بتدريسه في المسجد الحرام وبدار الحديث، وتخرج علي يديه طلاب كثيرون من أنحاء العالم الإسلامي …” انتهى.

والحق أنه لا أحد يستطيع أن يعتلي على عرش العلم والمعرفة في الحرمين الشريفين في تلك الفترة إلا من كان يثق بنفسه أولاً ، ثم تثق به جماهير أهل العلم ليس في منطقتي النجد والحجاز فحسب، وإنما على جميع أنحاء العالم الإسلامي لأن الحرمين ومؤسساته التعليمية والتروية المختلفة من أروقة والمعاهد والمدارس وأربطة وأوقاف وغير ذلك كان يفد إليه طلبة العلم وكذا أهل العلم، كما كان هناك أيضاً أخرون يأتون إلى المنطقة لأجل المجاورة والعبادة وبالتالي يتشدقون إلى الحلقات العلمية التي كانت تعقد على جنبات الحرمين الشريفين بالإنتظام وفي المواسم الحج والعمرة.

وبجلوس الشيخ على كرس العلم في الحرم المكي لا شك أنه استفاد منه أناس كثيرون من الصعب حصرها في عدد معين، ولكن هؤلاء نقلوا بدورهم ذلك العلم الذي تلقوه من مجالس شيخهم ومربيهم إلى أنحاء أخرى من هذا العالم، وذلك حباً لنشر النور النبوي وتعليماته الذهبية والتي يتعطش بها كل مسلم غيور على دينه ويحنّ حمل رسالة النبي صلى الله عليه وسلم . ولم يكن يقل فائدة من طلبة العلم الجهود التي كان يبدلها شيخهم من خلال تدريسه بدار الحديث المكي، وكانت لها أثرها القوي في الحياة العلمية والثقافية في البلاد الإسلامية وخاصة فيما يتعلق بالحديث وعلومه.

وقد أشار بعض من ترجم لفضيلته – رحمه الله – إلى بعض ممن أخذ العلم عنه وخاصة أؤلئك الذين نبغوا في الساحات العلم والمعرفة هم كثر– كما يقول فضيلة الدكتور عمر بن عمر السبل ” عدد لا يحصى “.

وكان فضيلة الشيخ المحدث محمد بن عبد الله الصومالي يلقي الدروس من أهم المنابر العلم في الحجاز مثل دار الحديث المكي في الفترة الصباحية، أما في المساء كان له كرسي وحلقة خاصة  يحرص عديد من أهل العلم على مواظبتها. ولم يقتصر جهد الشيخ العلمي في منطقة مكة المكرمة وإنما أيضاً كان له جهوداً لا تقل عما سبق في المدينة النبوية وخاصة في الجامعة الإسلامية بحيث عين كمدرس في الجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية عام 1377هـ، وتتلمذ على يديه عدد كثير من طلبة العلم . ولأهمية دروس الشيخ قصد إليها نخبة من العلماء الأفاضل ومن أهل العلم الذين يشار إليهم بالبنان في العالم الإسلامي مثل: الشيخ محمد بن عبد الله السبيل -رئيس شؤون الحرمين، وإمام وخطيب المسجد الحرام-، وهو والد الشيخ عمر بن محمد السبيل – إمام وخطيب المسجد الحرام أيضاً ، ممن يدل على أن الوالد تفطن أهمية حلقة الشيخ محمد بن عبد الله الصومالي وتميزها حتى استغل بها ، بل وأوصى محبيه وعلى رأسهم أولاده أن يحرصوا عليها رحمهم الله جميعاً.

وممن أخذ العلم من حلقات الشيخ في الحرم ودار الحديث الشيخ يحيى بن عثمان المكي الهندي -من علماء الحجاز وكان حياً فترة حديثي مع فضيلة الشيخ بل كان له حلقة علمية في المسجد الحرام بمكة. وممن استفاذ الحلقات العلمية التي كان يلقيها الشيخ محمد عبد الله الصومالي أيضاً أحد العلماء المعروفين في العالم الإسلامي وهو فضيلة الشيخ مقبل بن هادي الوادعي -محدث ديار اليمن- الذي وصف شيخه في كتابه “المقترح في أجوبة وأسئلة  المصطلح” بـ: “أعلم الناس بعلم الحديث في منطقة الحجاز”. ومن العلماء الذين استقوا من مجالس الشيخ أيضاً فضيلة الشيخ الدكتور عمر بن محمد بن عبد الله السبيل -إمام وخطيب المسجد الحرام المشار إليه آنفاً، والشيخ محمد حسن الجيش، والشيخ أحمد ولو الحبشي، النجم اللامع في سماء الحبشة والذي أنار الأمة للطريق عبر دروسه وحلقاته العلمية في جامع الأنوار في عاصمة إيثوبيا بأديس أبابا.

وهناك نوع آخر من أهل العلم استفادوا من مجالس الشيخ عن طريق الإجازة ، وهذا الصنف لا يقل عن غيره وهم خلق كثير ومن أشهرهم: الشيخ عبد الرحمن الحذيفي القارئ المعروف وإمام وخطيب بالمسجد النبوي في المدينة المنورة، والشيخ أحمد بن محمد عثمان المنيعي أحد هيئة كبار العلماء في الممكلة العربية السعودية، والشيخ مساعد الحميد، والشيخ ربيع بن هادي المدخلي صاحب تصانيف وعالم في العلوم الشرعية ومدرس سابق بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، والشيخ محمد المدخلي، والشيخ أسامة القوصي، والشيخ وصي الله محمد عباس، وكل هؤلاء من أعلام الحجاز المرموقين رحمهم الله جميعاً.

وللحديث له بقية 

د/ محمد حسين معلم علي

من مواليد مدينة مقديشو عام 1964، أكمل تعليمه في الصومال، ثم رحل إلي المملكة العربية السعودية ليواصل رحلته العلمية حيث التحق بجامعة أم القرى قسم التاريخ الإسلامي حيث تخرج في عام 1991م، ونال الماجستير بنفس الجامعة في عام 1998م ،كما واصل دراسته في كل من السودان والنرويج، حيث نال درجة الدكتوراة بجامعة النيلين عام 2006م، أما في مملكة النرويج فقد تخصص بالدراسات التربوية وكذا الثقافات واللغات المتعددة في جامعة همر بالنرويج. وعمل أستاد التاريخ والحضارة الإسلامية في الجامعة الإسلامية في مقديشو - الصومال، وهو عضو في عدد من المنظمات المحلية والإقليمية والدولية، أصدر "ديوان الشاعر بعدلي" عام 2002م ، و"الثقافة العربية وروّادها في الصومال" عام 2010م، وله عدة بحوث أخرى، يقيم الآن بالنرويج .
زر الذهاب إلى الأعلى