الــــحلــــــم الــــضـــائــع ( الأخير)

بــــــدايـــــة الرحــــــــــلة.

إنبلج الصبح وبزغت شمس يوم جديد، لم يكن يوما عاديا في حياته الروتينية، بل كان يوما مفصليا في تاريخه ومهما في حياته، غادر إلى ناحية بيت مهجور تكاسلت الشمس في أفقه من كثرة التشجير والحشاش والأعشاب المرتعشة وكومات القمامة والأحجار المتناثرة التي غطت عليه كاملا، كان البيت نقطة الإنطلاقة ومركز التجمع للشباب قبل السفر والمغادرة، والبيت كان في الماضي مقرا لقسم الحوسبة للوزارة المالية وقريب جدا إلى الشارع الرئيس للعاصمة الذي يعد الشريان الحقيقي للمواصلاة وربط أجزاء المدينة على بعضها البعض.

 بدأ كل شئ في البيت المهجور شاحبا، الإهمال والخراب الذي طال على أجزائه كان واضحا على  جبينه، غرف صغيرة ممتدة نحو الأفق تربطها ممر ضيق وسلالم لولبية ذات طلاء وبوهية سوداء من الصدأ، وكؤوس غارقة في الأوساخ، ومزهرية عتيقة تعاني من القسوة والإهمال،وجدران متشققة بفعل الزمان، ونوافذ أكل الدهر على جمإليتها وشرب، وغبار متراكم في بلاطه العتيق، وشاشة SONY مهترأىة تركن إلى الزاوية الشرقية من الغرفة تشاهدها أكثر من عشرين شخصا جلسوا بطريقة مكتظة فوق حصير باليّ وأفرشة ممزقة.

 الطبيعة فرضت سياجا من المزالق والمطبات على أرجاء البيت، وأحاطته الأعشاب وكأنه أكمّة في وسط المروج، وفي باحة البيت تتساقط أوراق الأشجار وهي تئن وتصرخ، ورغم ذالك كان شدو الطيور التي تتكأ في ظل الأشجار الباسقات وصوت السفينة المرتقب وطعم السفر يجعل الأجواء رشيقا بعض الشئ .

 عواطف المتاجرين بالبشر قد تجمدت ومشاعرهم تحجرت منذ أمد بعيد، لا شئ هنا يدعو لليمن أو الرحمة والشفقة، النظرات العدوانية وبداية الكلمات الملتهبة والصرامة الشديدة للطاقم كانت تشبه ولادة متعثرة  لرحلة مجهولة، موجة من العنف وكلمات تجرح الضمير تخرج من قاموسهم الذي تفوح عنه رائحة البالوعات، وحروف نابية لاداعي من سردها، سيما وأن معظم من في البيت جاءوا إلى هنا بمحض إرادتهم ودون أن يجبر عليهم أحد، ويريدون تنفيذ الأوامر حرفيا لتسهيل المهمة ونجاح الرحلة المحفوفة بالمخاطر، ولكن البند الأول للهجرات الجماعية والمتجارة بالبشر هي الإخافة وإبرزاز العضلات وترهيب البسطاء لزرع الخوف في قلوبهم وقتل المعنويات التي قد تكلف الكثير للبحارة في حال طرأ أي شئ خارجي إبان الرحلة.

 إنهالت عليهم الإرشاد ات والنصائح النتنة وكيفية مواجهة الأخطار المحدقة للرحلة المجهولة، وأنهم لا يملكون سوى سفينة شراعية صغيرة نسبة سلامتها أقل بكثير من نسبة الأخطار حسب المقاييس والمواصفات العالمية، ولكن نعدكم بحسن التعامل والإبتعاد عن الإزعاج ما أمكن، والوصول إلى الهدف بأمان تام وسلاسة  كبيرة مالم يحدث شئ فوق قوتنا، والحقيقة أن هذه الدفعة من المهاجرين دفعوا أموالا طائلة لمتاجرى البشر، إضافة إلى المعارف الكثيرة والخبرة المتراكمة للبحارة في هذا المجال مما يجعل السفر طبيعيا بالنسبة لهم.

 كانت الطلبات والتوجيهات تتواصل فيما كان ورسمي يتجول نظره داخل الغرفة وفي بهوها الصغير ليتفرس في الملامح ويقرأ تعابير الوجه وبريق العيون لعله يجد بين المسافرين من يثق في شخصيته ويصاحب معه ويكون له العون في هذا الرحلة الشاقة والمتعبة التي من الممكن أن تنتهي في أحضان الموت والمعاناة.

 في وسط المتاعب ورغم قدومه إلى طريق يدمي الأقدام الإيقاعات المتباينة على إمتداد السنين والليل الصامت من حوله وبلورية المشاعر تجاه أهله لم تبرح في وجدانه، طأطأ رأسه ونكت على الأرض بعصاة صغيرة كانت في يده، إستسلم للذكريات بكل أشجانها وأنزلق في التفكير العميق، ورجع به الزمن إلى الماضي الفخيم، إلى الأيام الخوالى والتنعم في مهد الصبا، إلى المدرسة وطابورها الصباحي وحينما كان يغدو ولا يحمل هما غير الدراسة والسبق إلى الأرجوحة في زمن الإستراحة، إلى الجامعة وحرمها الفخم ومكتبتها التي كان ينام فيها الليالى بعدما عرف الحارس صدقه وحبه للعلم والشغف الكبير للمعرفة الذي يحمل في قلبه، إلى السمراوات الطوال وجسدهن المشوق وقامتهن الفارعة ولونهن الجميل، ولم ينس أتراب الحي وجمالية الحياة في الصغر ،حتي وهو في الرحلة المجهولة مازالت النوستالجيا والذاكرة القوية تشغل حيزا كبيرا في عقله وتفكيره.

 هرب إلى الممر الضيق للبيت ورفع صوته وكأنه يتخلص من الهواجس المخيفة والهاتف الذي يهتف في داخل ضميره، رفع صوته بأعلى درجة ممكنة ثم قال: عشت في الوطن 24 سنة رمادية لا أدري مما اكتسبت فيه، ولم يمنحني الوطن سوى الإنتماء الذي أصبح في الآونه الأخيرة وصمة عار وعنوانا للخوف والإرهاب والقرصنة والسطو المسلح والفساد المستشرى في أوصال الدولة ومفاصل الحكومة.

 في صغري كنت أنظر إلى زي العساكر ونياشينهم بكثير من الإعجاب، والنجوم المرصعة على أكتاف حماة الوطن كان يرسلني إلى عمق الجيش الوطني وتشكيلاته الكثيرة، وكانت خطبة الرئيس وقامته الفارعة في المناسبات الوطنية تعني لي الكثير، كما كانت أذني ترقص وهي تسمع زغاريد الوطن وترانيم التربية الوطنية وأناشيد العَلم وهدير الآلات العسكرية وعروضهم الرائعة والصاخبة أحيانا.

 وكنت أستمتع المناظر الخلابة لبلدي، جبال وروابي يكسوها الأشجار، وملايين الفدان الوادعة على ضفاف الأنهار،وزرقة المحيط وأنواع السمك المختلفة والمواشي، وحديث الجدات الطاعنات حينما يتحدثن عن الأساطير والقصص المخيفة والمفرحة، عن المناطق الريفية الجميلة ،وعن عاصمة الوطن تاج بلدي الجميل، وعن الفراشات التي تزهو وتختال، والقمرية التي تغرد وتشدو، وأنواع الحيوانات المفترسة وغير المفترسة وما أكثرها في حديث جدتي المسائية، وقصة أرويلوARAWEELO الماكرة، الملكة التي حكمت طول البلاد وعرضه وعذبت الرجال وملأت الوطن ألغازا مشفرة يحتاج حلها إلى كمبيوتر أو ذهن متقد وسرعة البديهة والنباهة الفطرية،  وطغطير dhag-dheer الشريرة التي تخطف العيال وتعيش في الأدغال وفي وسط الغابات، والجبان الفكاهي عقال شداد Cigal shidaad، والسلسلات الشعرية الأخّاذة لفحول الشعراء الصومإلىن في مختلف العصور والأمصار أمثال جوبا Guba وهامي Hamey وهلع طيري Halac Dheere.

 وعن الوطن المترامي الذي يمتد أكثر من ألف كم2، من أبخ شمالا وعلى مشارف بلاد عفر، وإلى أوكاسي على تخوم قبيلة مُكانبا الكينية جنوبا، ومن هضاب دردوا المطلة على القومية الأورومية غربا، إلى شاطئ العز في المحيط الهندي، وعن الأبطال العظام أمثال الإمام أحمد بن إبراهيم أحمد (جري) والسيد محمد عبدالله حسن وشيخ حسن برسني ومحمود حربي وحواء تاكو وغيرهم كثير، وكيف حمى الأجداد عرين الأمة وناضل الآباء أن تجرح كبريائها وعظمتها، وكانت نشوتي تزداد كلما تطرق أبي فصول الحكايات وتعرجات التأريخ وسجل الحضارة العريق لأمتي، والملاحم البطولية والمغاوير الذين سطرو أروع القصص والبطولات وكتبوا بدمائهم لابمداد أقلامهم تاريخ أمة عصية على الإندثار وأبت أن يعروها دجى النسيان رغم المحن والمآسي، وكان عقد الرمان التأريخ المشرفة للقبائل والأفخاذ و النسب المتصل من أبي الذي خرجت من بين صلبه إلى أجدادي الكرام التي تختلف الروايات من أصلهم وفصلهم!.

 وحينما بلغت المراهقة رأيت أن العساكر الذين تمنيت أن أكون من بينهم هم من دمّرو البلد ومزقوا الوطن،  وأدركت أن الكل يبتسم في العلن والعراء ويبكي في السر والخفاء، وأن جمالية الفراشة لم تعد كما كانت، وأن الريف الجميل تحول إلى صحارى قاحلة ومفاوز غير آهلة بالسكان، والزراعة إنتهت والحقول إندثرت والزهور ذبلت والسنابل يبست والمواشي أنهكها التعب وأرداها القحط، وأن الأبطال الذين  أخلدو أسمائهم في سجل التاريخ أسماؤهم عند البعض ليست رنانة كما قالها أبي!، بل البعض يرى أنهم رعاع ساذجون وسفّاكون متعطشون للدما وأنهم لا ينتمون سوى قبيلة معيّنة،! وأن أساطير القصص مبنية على الخداع والغش والتضليل وإستبعاد وإستعباد البشر.

 وأن التأريخ عرجاء وشوه الرجال تفاصيلها وباعوها بابخس الأثمان في سوق النخاسة بلا ضمير،  وأن للنشيد الوطني لا يحرك المشاعر الجامدة والقلوب المتحجرة والبطون الجائعة والعيون الزائغة، بل معظم من يعيش إليوم لم يسمع يوما في حياته معزوفة الحياة والرنات الوترية للنشيد القومي، وأن الجغرافيا يعاني من التمزيق والتجزأة والتفيت، ولا يجد من يعينه أو يواسيه أو يرمم أجزاه ويجمع أشتاته من جديد.

 وأن ثورتنا المجيدة حملت إلينا الموت الزؤم، وأن جمهوريات الموز والقبائل والكانتونات الصغيرة تكاثرت هندسيا وأفقيا وبسرعة فائقة تسابق الرياح، وتكاثر يُفرح الأعدا ويحزن الأقرباء، وأن العًلم لا يمثل أي شخص ولا يعدو كونه قطعة من قماش ترفرف بلا معني وتنتصب شامخة دون أن تحدث فرقا في أرض الواقع؟

وأن الغلابة والمكلومين والبسطاء وممن أذابهم عرق الجبين لا يجدون ما يسدون رمقهم في ظل أمة تقودها الغوغائية المتدثرة بالقبلية والعنف وبيع السيادة للقوى الخارجية، في حين أن أغنياء الحروب والفاسدين من التجار الجشعين يتذمرون كثرة اللحم في المائدة.

 وعندما رست سفينة العمر علي شاطئ العقد الثالث من عمري كان الوطن منهارا تماما، والشعب تفرق إلي أيدي سبأ،وأدركت أن النسيج الإجتماعي مفكك والفسيفساء المتجانس تآكل وكاد أن ينتهي، والقبائل التي تشكل لوحة زيتية رئعة بل أروع من لوحة موناليزا متناحرة، وأن سرطان المقاطعات قد إجتاح في أوصال جغرافية الوطن، وعندما سبرت غور المجتمع عرفت علي أشياء لم أكن أدريها، الإنسان يترنح تحت عبأ الحروب والصراعات العبثية والفقر المدقع، والوطن يتلوّي في جوف اللهب، والجموع حائرة، والقوي يقتل الضعيف، والوضيع يملك زمام المبادرة، والوطني مكبّل في الزويا البعيدة والزنزانات الضيقة أو يموت علي الأرصفة الباردة، وأصبح التزوير والنهب والقتل والإغتصاب روتينيا عشنا في خضمه دون وعي وتذكر واللامبالاة قاتلة.

 كبرتُ ومعي كبر هذا الوضع المأساوي الذي تمر عليه الأمة، والشخص العنيد الذي كان في داخلي يراقب الوضع عن كثب، وينظر الوقائع بعيون مختلفة وذوق خاص، كرهت النفاق المنتشر في كل مكان والمحسوبية الطافحة، وأمقتُ الخوف والتبلد الذهني والإدراكي الذي يوجّه المجتمع ويقود الأمة نحو الوصولية البغيضة التي تعني أن الجميع يعمهون في غيّهم ويتقلبون في عالم الفساد والإنحطاط.

في هذا الوضع الحرج وعلي وقع أنغام التحرك لم يجد وسيلة يظهر عن حزنه ومأساته سوى البكاء بعصبية نادرة، ورفع صوته الشروخ الذي لا يصل صداه بين دفّتي البيت، كان متوترا لحظة خروج سعيد من الغرفة الضيقة إلي الممر الرئيس للبيت، شعر أن ورسمي يصارع مع السفر، والرحيل وبدون علم والدته يعني له مغامرة غير مضمونة العواقب، ربّت علي كتفه بطريقة موحية فقال: الهجرة والغربة أليمان ولكن الغربة في داخل الوطن والهجرات الداخلية والتشريد الجماعي والقتل المتعمد وتجفيف مناعب الخيرات ومنطق القوة الزائد في الوسط أكثر ألما ويجعل سفرنا نحو المجهول قرارا صائبا وبدون خوف أوجل يا صديقي.

في عـــــــرض الـــبحــــــر

تحرّك الموكب المتجه إلي الجنة المفقودة حسبب خيالهم الوهمي في الساعة الثانية ونصف صباحا وفي جنح الظلام  وكنف السواد الذي يغطي كل شئ في عالمنا سوى حرقة الألم وضمير ورسمي الذي يؤنبه، تحركت القافلة ومعها تحرك ورسمي وهو متدثر بحلمه الجميل: الهجرة إلي أرض الأحلام… إلي أوروبا… إلي الثلوجة المتساقطة… إلي الحياة الرغيدة التي تليق بالإنسان ويحقق فيها أحلامه بيسر وسهولة.

 شعر بدوخة خفيفة سرعان ما تغيّرت إلي إغماء!، إستفاق وعاد وعيه من جديد، المحرك ينفث المياه بقوة كبيرة والسفينة تشق عباب الأمواج بطريقة قوية، إبتعدَ عن المراسي وعن مرابعه الأولى وذكرياته الطفولية وحنان الأمومة وعطف الجدة وباحت الجامعة والميدان التي شهدت خطوته الأولي، وأختفى البرُّ بكل جماله وآهاته وراء زرقة المياه وبعد الأفق، إذن نحن نركب عباب البحر ولا نعرف ما يخبو لنا القدر،  أنعيش ويكتب لنا أن نصل إلي أوربا وشاطئ السعادة بأمن وسلام؟، أم سوف يبتلعنا البحار ويأكلنا حيوانات البحر الفريسة؟، لا أدري ولكن ربي رحيم وقضاؤه سينفذ لامحالة والأعمار بيدالله، تمتم هذه الكلمات وأستسلم للمستقبل بكل تراجيديّته وحكاياته الغامضة.

 الفراق المؤثر ونهاية مروعة حزينة وتصورات مخيفة ومآلات ضبابية وشبح الموت المركون في فؤاده أثر في توازنه فمادت الأرض تحت قدميه وسقط  ثانية، ولكن ومن حسن حظه أنه استفاق بسرعة مذهلة وإلا لكان فريسة سهلة للضياع ولتركتها الذئاب البشرية في عرض البحر وفي هذا الليل الديجور.

 لا أحد يتحرك، سكون كبير داخل السفينة كأنهم جثة هامدة، تسمرت العيون في الأفق بوجل وخوف، صمت رهيب وحضن قوي للذكريات، الجميع جامدون وموحدون مع الألم، الأجساد مرتجفة والقلوب مضطربة والعيون جاحظة ومحملقة من اللاشئ، والوجنات بارزة والنظرات حائرة لايطربهم الكلام ولايهز مشاعرهم الإيقاعات الطويلة للموسيقي التي تصدح من الراديو العتيق للسفينة وكأنهم مردة الجن أو كراسي بلاستيكية غارقة في الظلام، لاصوت يعلو فوق نبض القلوب المتسارع وأسلحة الوجدان الداخلية والترقب لما سيحدث في عالم المفاجآت.

وقبل أن تتوغل السفينة في الأمواج المتلاكمة ألقي ورسمي نظرة تفقدية علي وجوه الجميع ،الأجساد نحيلة والنظرات زائغة والبطون ضامرة والأحلام كبيرة والأخطار متعددة والتحديات ماثلة للعيان،جفون ثقيلة وجبين شاحب وسمارة ذابلة في وسط المعاناة، الكل مشغول بما تخبؤه الأيام في طياتها، وما سيحصل في خضم رحلة التيه والضياع، أشفق علي حالتهم ومنظرهم البآئس، ثم قال: لو أنهم وجدو علي ظهر وطنهم  وفي وسط شعبهم ما يستحق الحياة لما تركوا عنه.

 جلس سمتر بزاوية خالية من المهاجرين أو من إختارو ركوب الأمواج ومصارعة الأخطار، ورأو أن الوطن عبارة عن نار تلتهم الجميع وسجن كبير يجب أن نتحرر منه، وأن تربة الوطن لا تستحق الحياة، طالع الكون من خلال ذاكرته الخربة وتوغلت أعينه لجهة الشمال الموغل في زرقة المياه الصافية، فجأت المشهد يتحول إلي حياة البساطة في عقر دارهم حيث أخته الصغيرة كعادتها تطبخ العشاء، وجدته تصلي وتقرأ أورادها الصباحية بكثير من الأخطاء وبلكنة بدوية واضحة، أما أمّه فتوزع  الدعاء والإبتسامات الصادقة علي الجيران، كما تمنح عطاء من لا يخشي الفقر علي الفقراء وتواصل الصدقات والطيبة رغم قلة اليد وتواضع الحالة المعيشية للأسرة.

بدأ الحب والتعلق الواضح لأفراد أسرته  يعزف علي الوتر الحساس لورسمي، تذكر حياة أمه وكيف كانت صراع مع سيمفونية الحياة، وتذكر الحب المتدفق من شقيقته وهو في أعتاب الرحلة والمغادرة فكاد الحنين والحب المصاحب بالأنين والتوجع أن يقتله، همس في أذن الزمن مؤنباً أختي هي قرة عيني وحب أمي يشكل نبض يردده شرايني وكان قلبي يتكلم حبها قبل فمي، ولكن ماذا أصنع وقد طفح الكيل وظلمني القريب قبل البعيد؟، وقل لي بربك كيف أواجه الحياة وقد تعودت الفشل الوظيفي رغم نجاحي التعليمي؟.

 أخذتْ يد الزمان بعيدا عن أهله ومرابعه، ولكن نيّة الرجوع وشعلة العودة وهو يملك ما يستطيع أن يؤسس عالمه الخاص ويمكنه الخروج من سرادب الفقر والحرمان إلي رحاب الثروة والغناء مازالت تتّقد في جوفه المتعب، ترك البرَّ وهو في سجن من الصمت الرهيب وغبار الصراع الداخلي يلهب أحشائه، غاص في بحر من الدموع وبحيرة من وحل الأماني والآمال، نهره أصدقاؤه المحيّرين بالدموع المتثاقلة في مقلته، ولكن كانت إجابته مزيدا من العبرات ونظرات تحمل معاني الحب والوفاء.

 مضت بهم رحلة العمر وتوغل  ورسمي إلي عباب البحر، وسرعان ما أسدل الليل ظلامه على الكون وتحول المشهد إلي روعة طبيعية خلابة تزينها الرياح المحملة بنسمات البحر ورذاذ المياه الخفيف، مرّة كان ينظر إلي الأفق وحيث تلامس زرقة السماء بزرقة المحيط الصافية، ومرّة كان يتحملق حول السماء الصافية والنجوم المرصعة في كبدها بأناقة منقطعة النظير وبهندسة ربانيه بديعة، وتارة يجذب أطراف الحديث وبشكل متقطع مع سعيد الذي أصبح أنيسه في رحلة المتاهات.

إنبلج الصبح وأشرقت الأرض بنور ربها بعد ليل بهيم وبعد رحلة إستغرقت ساعات من الوحدة والشجن الصافي وعلي ضيافة المياه، تصعد السفينة علي هامة الأمواج وهدير البحار إلي قيعان المحيط وقعر المياه، تنفّس الجميع الصعداء لإقتراب الهدف والنجاة من حبائل الليل ومن مفاجآته الكثيرة، وفي الساعة السابعة والنصف حان وقت الفطور، ولكن الفطور هنا له معني خاص، لأن الجميع لا يحملون سوى الماء وبعض السندويتشات المتعفنة الجاهزة الذين يسدون رمقهم في عرض البحر.

 في كامل اليوم كانت السفينة تسير وتتهادى فوق المحيط وعين الله تكلؤها وترعاها، في منتصف الظهر فتح مصحفه الشريف الذي لا يتركه في الحل وفي الترحال فبدأ يقرأ سورة “هود” وبصوت خاشع مرتل يستشعر عظمة الخالق بواسطة آياته الكونية الكثيرة، تأثّر الركاب المسلمون بصوت سمتر فطلبوا منه أن يكمل الصورة، وبعضهم كانو يرددون الآيات بعد قرآته وبصوت جماعي جميل.

 ذهب الصباح وتوالت الساعات ورسم الشفق علي جبين السماء أكاليلا من الورود وباقات من الأزهار المتنوعة، واقتربت السفينة الشراعية إلي قبالة السواحل الإيطالية، وفي بقعة من المحيط خالية من الناس سوى المهاجرين والمتاجرين علي البشر وممن تجردو عن الشعور والإنسانية وانسلخوا عن البشرية والآدمية، ومن أصبح الإنسان عندهم أرقاما تتكلم، لاحس لهم ولا نبض، ورموز تجارية لا تملك أية حقوق، لأن الجشع أعماهم والصلف أرداهم والغرور أصابهم في مقتل، وأحجب عن ضميرهم شفقة الإنسان ورحمة البشر، طلب عنهم مسكّن للألم لأنه كان يشعر صداع رأسي رهيب ودوّارا نجم عن الأعراض الجانبية للسفر، خاصة وأنه يسافر عبر السفينة للمرة الأولى في حياته..

 المياه متشابهة والأمواج متلاحقة والعلامات معدمة في عرض البحر، ولم يكن هناك ما يعكر صفو الرحلة سوى الذكريات الأيقونية للأهل والأسرة، وطيف الوطن الباهت الذي يمر أمامه بين فينة وأخرى، وأسماء الأتراب والخلّان الذين تركهم هناك وخلف آلأف الأميال والأمتار، وحب يانع داسته المشاعر الجامدة.

 نــهايــة الــحلــم

زحفت عقارب الساعة إلي الأصيل أو الدقيقة الرابعة وعشرون دقيقة في الساعة الرابعة مساءً من اليوم الثاني للرحلة، تكيّف الجميع الأجواء الجديدة وأرتفعت المعنويات بسبب قرب الساحل الإيطالي، نشأت بين الركاب صداقة وليدة لا تقف علي أقدام قوية وانجلى الشعور المسيطر من الخوف والرهبة، وزاحت غيمة كبيرة علي صدور الجميع، اللغط والصخب والحكايات الطويلة بدأت، والنكات الطائرة إرتفعت من هنا وهناك، وفجأة وفي خضم المرح  إضطربت السفينة وتحركت بشكل عرضي مخيف وكأنها إصطدمت بجسم غريب كاد أن يغرقها وبسرعة البرق، سكتَ الجميع وكأن علي رؤوسهم الطير، حاول الملاحون أن يتفادوا عن هذا الجسم الغريب ولكن لسوء الحظ كانت المياه تتدفق وتدخل في السفينة بشكل سريع أربك الركاب والملاحين.

 ساد موجة من الهرج والمرج والصخب علي متن السفينة، الموت يبرز أنيابه الكريهة في كل جانب من السفينة، الكل متعلقون بحبال السفينة أو بأركانها الضعيفة أو ما وقعت اليد عليه، بدأت المياه تغمر السفينة وتنزل تدريجيا وبشكل دراماتيكي ،إرتفع الصخب والدموع وتصاعد البكاء وهنا فر الجميع إلي الله، وكل شخص ما يدين به، فهنا كهل يقرأ الأوراد والذكر وأعصابه متشنجة والعرق يتصبب من جبينه، وهناك فتاة جميلة في عمر الزهور ترفع أكفها إلي السماء وتتضرع إلي الله بقلب خاشع، وهناك عجوزة مسيحية تطلب النجدة من صليبها المتدلي في عنقها وتبكي بهستيريا، واللادينيون تذرف الدموع عن مقلتهم ولايدرون ماذا يدعون في هذه الحالة الرهيبة.

 غاصت السفينة تدريجيا وتحقق الجميع الهلاك ونظرو إلي الأفق هناك في إيطاليا وأسطولها ونجدة تنقذهم من الهلاك المحقق قد تأتي هناك ولو متأخرا، ومددا إلاهيا قد يأتي من اللمبدوزا وخفر السواحل الأوروبية، أو حتي من أسطول الغرب الذي يبحر كل ساعة في البحر الأبيض المتوسط بين الجنوب العربي والشمال الأوروبي.

 تضآلت نسبة الحياة وهطل المطر كأفواه القرب وسآت الأمور كثيرا، وبدأت أسماك القرش والقواقع تحوم حول السفينة التي تشرف علي الغرق، لا يوجد بصيص أمل في النجاة طمر المياه أجزاء السفينة وهرب البحارة بقوارب مطاطية صغيرة كان بحوزتهم،! وتركوا الركاب يواجهون مصيرهم المحتم وبصدور عارية، وحينما أيقن ورسمي أن الموت قد دان وتعب من السباحة التي لا يتقنها أصلا نظر إلي السماء وترك أمنييته الوحيدة: أيها الراقدون علي أكتاف الأحلام أفيقوا، ويا أيها اللّاهون علي ضفاف الأماني الأرجوانية والطموحات الكاذبة التي تعانق السماء والراحلون إلي دروب المنافي إنتظرو ريثما يصل أخبار الغربة ولوعة الشوق قبل أن يصلكم أنياب الموت في عز المحيط أو عرض البحر أو تخوم الصحراء العتمور، لا يوجد أمامكم سوى رحلة مجهولة العواقب محفوفة بالأخطار سياجها الموت وسبيلها الإهانة ورفيقها الألم والمعاناة.

 مضى ورسمي إلي ربه وهو يلوح يديه وينظر إلي السماء كأنه يودع أحبابه وينتظر رحمة ربه التي وسعت كل شئ، ولكن تركنا بوصية خالدة وحكمة جميلة تتناقل الأجيال شذاها عبر العصور.

حسن محمود قرني

حسن محمود قُرنَي كاتب ومدون صومالي خريج جامعة أفريقيا العالمية كلية العلوم قسم جيولوجيا.
زر الذهاب إلى الأعلى