ثرثرة علي أهداب الطبيعة

تحت حرارة الشمس الأكتوبرية الدافئة مشيت متأنيا علي الرصيف البحري لساحلنا المقديشاوي المبهر والجمال يأخذني إلي زرقة المحيط وإلي أحاديث الأصدقاء الشيّقة والأمسيات الأيقونية، والإبتسامة الموحية للجميلات اللآئي ينشدن الدفء والراحة والإستجمام من الرمال الحريري، والهواء الطلق التي تهب من المحيط صوب البر محمّلة بنسائمها المنعشة.

 في سحر الهدوء وفي سكون المساء يومض مشاعل الحبور من بعيد وعلي هامات الأمواج التي تشبه الروابي، وتضوّع النسيم العليل الذي ضفي الأجواء روعة وبهاء أريجه الفوّاح ومسكه الفاخر، وبدأت الصبا تداعب النفوس وتحرك بطريقة مثيرة خصلات الجميلات وشعرهن الفاحم، وسال نهر الكلمات الذي كان يتدفق من أفواه الأصدقاء ومن حناجر السمراوات الطوال بإنسيابية عجيبة تنسينا عن المكدّرات التي تحيط على الإنسان الصومالي منذ سنة التسعين الميلادية.

على صفح المحيط وصهوة المياه المتلاطمة سفن رابضة تتهيأ لجولة بحرية قصيرة، وسفن صيد شراعية متجهة نحو عمق المحيط، وأخرى ألقت المرسال وركنت في المياه الضحلة، ولاشات سريعة تستعرض قوتها وتتجول داخل المحيط بخفة ورشاقة ويركبها من يريد الاستجمام واستنشاق عبق المياه مقابل مادي بسيط، وزوارق سريعة تتراقص على وقع الأمواج كفتاة إفريقية سمراء تهز أردافها وتضرب رجليها علي الأرض بعنف وصخب في ليل إفريقي خانق.

تبدوا ساحة الشاطئ وكأنها مهرجان بهيج لكافة شرائح الشعب، جماعات من البشر يمارسون شتى الألعاب والهوايات، وتزاحم شديد فوق الرمال وعلى الكراسي البلاستيكية لجميع الفئآت ومختلف الأعمار، هناك وعلى حافة الأمواج التي تتكسر علي الرمال النظيف وفوق الصخور الصماء والرمال الحريري، فتيات في عمر الزهور يلتقطن صورا جميلة وبأوضاع مختلفة ومثيرة، قد يرسلن إلي حبيب بعيد توارى في غياهيب المنافي، أو إلي قريب إبتلعته الغربة وأبعدته النوى.

وهناك علي مقربة من المصطبة الطويلة لبقايا المباني المنهارة التي صدأت بفعل الأعوام المريرة التي تركت علي جبين الوطن ويلات وإحن وأيام سوداء كريهة، مجموعة من المنسيين علي هامش الحياة، يخزنون القات ويمضغون الأوراق الخضراء بنهم واضح وتلذذ شديد، وهم يتيهون في سراب النشوة الآنية التي تنقلهم من عالم الحقيقة إلي الحيوات الزائفة، والخيال الفانتازي والمزاج العالي الذي يصور الكون وكأنه مترنح تحت قبضته.

وهناك أولاد يلعبون الكرة ويداعبون الساحرة المستديرة، ويمارسون هوايتهم المفضلة في ظل تجاذبات طفولية، وإحتكاكات صبيانية، وشجار عبثي ينشأ عن أتفه الأسباب وينتهي في نفس اللحظة وبطريقة ساذجة وبرئية أيضا، وعلي الركن الهادئ البعيد عن أعين الفضولين والمارة أحبة اقتربوا ونسو كل الفراسخ المعنوية والأمتار الحسية، وهم يتهامسون ويتناجون ويتلذذون طعم الوصال ولذة الحب السرمدية، وينهلون من نمير العشق ومعين الهوى الذي لا ينضب.

 وهناك مبني مهجور يبقى شامخا ووحيدا رغم القسوة والإهمال، وكأنه مغارات وقلاع تناجي الدجى وترنوا إلي زرقة السماء الصافية، الشبابيك مكسرة، والأبوب محطمة، والجدران متسخة ومهملة، وتحول بعد كل هذه السنوات شاهدا لما آل إليه الوضع الصومالي الذي بدأ يتحسن في الآونة الأخيرة، ومن المؤكد أنه قاس الأمرّين وتجرع مرارة الماضي أصنافا وألوانا، وعلى أمامه أو قل إن شئت بهوه الأمامي الذي غمرته المياه أحجار مختلفة الأحجام والأبعاد متناثرة بشكل هندسي عجيب.

وهناك وتحت القبة الصفائحية ذات الطلاء الأبيض، موائد ملئية بأشهى الطعام والمأكولات الشعبية الصومالية، وفواكهة طازجة، وخضروات لذيذة ومتنوعة، وحلويات محلية، وفطائر من عدة أنواع، ولحوم متنوعة ما بين مفروم ومشوى ومنضوج، وعصائر يسيل الإنسان اللعاب بذكرها، وألبان طازجة، وسندويتشات صومالية فاخرة.

ولم يخل الموقف كالعادة كتاب أدبي بنكهة لاتينية أمازونية باذخة، وذكريات أيقونية ساطعة لبعض الأحبة حتى تسمرت أعينهم في الأفق البعيد وحيث يلتقي زرقة المحيط بصفاء السماء، والأطياف النورانية والأنغام الشرقية الحانية، وحب يسري في داخل الأرواح الشفافة ولمسات ذات حنان ودلال.

 على بساط المشاعر النابضة وصدى النغمات المترددة، جلسنا مقهى مطل على المحيط الهندي، حيث مدّ الأمواج يصل إلينا كل مرة ونحن نثرثر ونتجاذب أطراف الحديث ونسبح بلا أجنحة في جو مزركش بالصداقة الأصيلة والأخوة النبيلة لأصدقائي الأوفياء، وممن جعلوا زيارتي في مقديشو كرنفال حقيقي وأتحفوني بكرمهم الفياض وأنسهم الطافح، وشعرت بينهم دفء الصداقة ومتانة العلاقة ، رغم أن معرفتنا الحقيقية لا تتعدى  بضعة أشهر،  ولم أكن أتوقع أن بإمكاني أن أجعل حلمي بلقائهم ممكنا، وأن تكون الصداقة التي نشأت في الفضاء الإفتراضي وعلى أروقة الفيسبوك الذي يقرب المحبين ويمنحنا أصدقاء كانت من الصعب أن نجدهم في واقعنا الذي يحيط بنا على هذا النوع من الإلفة والإنسجام والتفاهم!.

 مرت ساعات دون أن نشعر بالملل، وذابت الفروق فاتحدت النفوس، وهدأت الحركات وخفتت الأنوار ودارت الهمسات بين المحبين بسلاسة كبيرة، والجلسات في وسط المقاهي المتناثرة علي كتف المحيط تجعل الثرثرة في أهداب الطبيعة جلسات أريحية بإمتياز، لا أحد هنا يريد أن يتذكر مرارة الماضي وصفحاته القاتمة ومآسي الأيام الغوابر، الجميع غارقون بحبل الوصال وأحاديث الخلان في هذا الجو المفعم بالأمل والسلام المنشود، ولو سألت واحدا منهم عن الماضي المؤلم بكل تفاصيله وآهاته وآلامه يقول ببساطة وفي عينيه مسحة من التذمر أو هالة من الغضب: أريد أن أعيش في لحظتي، أريد أن أستمتع في الحاضر الذي نحن فيه وعن المستقبل الذي يطرق بابنا وبقوة، لأن في وطننا المنهك الماضي لايعني سوى لوحات حالكة، وأيام سوداء وساعات مؤلمة تركت في نفوس الشعب ترسبات سئية وآثارا واضحة من النكد والضنى لم تزل باقية إلي يومنا هذا، رغم التحسن والتطور الذي طرأ على الوطن والسلام النسبي الذي شعرها الشعب في ظل حكومة صومالية تسعى جاهدة لإعادة الأمجاد والكرامة المفقودة للإنسان الصومالي.

حقا كانت أمسية مرصعة بفكاهات الزملاء، وطرائف الأصدقاء، وملح الفضلاء التي تجلي الهم وتزيل الغم، وصورا جماعية لأحبة سهرت أعينهم من أجل اللقاء، وبعد ساعات من الوصال المضحك توارت الشمس وغابت وراء السماء الملبدة بالغيوم، ونحن نستعدّ للعودة إلي بيوتنا أو بالأحري إلي الإفتراق الذي أصبح وشيكا وأنا أردّد: بالحب إلتقينا وبالحب إفترقنا على أمل اللقاء بكم مجددا، لأنكم نبض الحياة وبهجة الكون، نسعد بوجودكم ونرقص طربا برؤيتكم ونشتاق لشذا محبتكم وألحان كلماتكم الشجية.

 أفجوي والطبيعة الباذخة

في ثاني أيام العيد ذهبت مع رفاقي إلي بساتين أفجوي ومروجها الخضراء، أفغوي موئل الجمال ومنبع الطبيعة الساحرة، ذهبت إلي المدينة الناعسة على حضن نهر شبيلي الخالد ،والتي تستمدّ حيويتها وإستراتيجيتها من موقعها المتميز لكونها البوابة الجنوبية الغربية للعاصمة مقديشو والتي تبعدها حوالي 30كم، وتزود أفجوي لمقديشو معظم احتياجاتها من الخضروات والفواكه لذا تشكل نبض مقديشو ورئة مهمة تتنفس بها العاصمة.

 كانت الأجواء صيفية ساخنة فارتفعت الرطوبة في الحنوب الصومالي إلى أعلي مستوياتها، لأن الشمس تجري هذه الأيام على خط الإستواء الذي يمرّ النصف الجنوبي للصومال، كان الحرّ يشتد والرطوبة تزداد والعرق يتصبب كلما توغلنا في السفر الذي تحول أخيرا وعندما وصلنا إلي عين الجمال ضحكات أنيقة وإبتسامات دقيقة وقهقهات مسائية مارسناها على وقع رقصات الأغصان وصوت الأوراق التي تعزف أجمل الألحان عندما تحركها نسائم المساء الندية.

 على حافة أحد الحقول الزراعية التي كان العمال منهمكين بحرثها، التقيت مزارعا مسنا يبدو على جسمه بقايا قوة وعضلات كانت مفتولة في زمن الصبا والشباب، جاء من أقصى الجنوب الصومالي حيث أعرفها جيدا وقضيت سنوات الطفولة وأنضر أيام عمري، تحدثنا كثيرا عن القرى الناعسة على ضفاف نهر جوبا العريق بدأ من جلبJILIB زهرة المدائن الواقعة علي سهول نهر جوبا التي آىسرتني منذ أول زيارة إلي جمالها قبل 15 عاما، مرورا بكمسوما KAMSUMA سرة المدن وهمزة الوصل بين الإقليمين التوأمين جوبا السفلي وجوبا الوسطى، مرورا بكلانجي KALANJEومريري MAREEREY ومصنع السكر الذي كان أكبر مصنع سكر في الصومال وثاني أكبر مصنع في القارة السمراء، وتطرقنا علي مزارات المتصوفة عن بلد الكريمBALAD AL-KARIM، ومانموفو MANAMOFA، وبارسنجوني BAAR SANGUN، هذه القرية السياحة التي ينصفها الخط الإستواء، وبإمكان الإنسان أن يعيش فيها لحظة تأريخية نادرة الحدوث، حيث يستطيع أن يضع رجله اليسرى علي النصف الشمالي من الكرة الأرضية ورجله اليمنى علي النصف الجنوبي من الكرة الأرضية.

لم أكن أتوقع أن أجد علي ضواحي أفجوي الرائعة وفي وسط الطبيعة وأناقة الأزهار التي تكاد أن تتكلم وتبوح كل مالديها لمرهفي الإحساس وأصحاب لقلوب النقية التي تنسجم بيسر وسهولة مع الطبيعة والحدائق الغناءة، من أتحدّث معه عن القرى النائية، والمدن الصومالية العريقة، والأرياف التي أعرفها كثيرا وبعضها كنت أتردد عليها كثيرا في صغري وأيام المرهقة الجميلة.

 حاول العم إبراهيم رغم قصر يده والبساطة التي تظهر عليه أن نكون ضيفا علي أسرته وأن نذهب معه إلي البيت، ولاغرو فالأرياف الصومالية التقليدية التي تحمل طابع العراقة والأصالة الصومالية التليدة التي لم تتلون باللون الأحمر بسبب نافورة الدماء التي سالت، ولم يتغير طباع ساكنيها بفعل الحروب العبثية والصراعات العقيمة التي تاه الشعب في دروبها الطويلة ومتاهاتها القاتلة أكثر من نصف قرن من الزمان، تبقي وفيّة لتقليد الصومال العريقة وأصالة شعبها الكريم المتسامح الذي يرى عدم إكرام الضيف من أقبح العادات التي يفعلها الإنسان علي مر العصور.

 وجدنا في الأماكن النائية وفي العمق الزراعي لأفجوي شعبا متسامحا كريما، ورياحا لطيفة تلامس وجه النهر الهادئ، وسهولا نهرية ملئية بالأسرار والخيرات، وإبتسامات برئية لأطفال يسرحون البقر علي المراعي الخضراء، وأزهارا متعددة الأنواع والأشكال والألوان، وجداول رقراقة تناجي عناقيد المانجو المتدليّة عليها، وأغصانا تحن وتشتاق لبعضها، وحقول السنابل الملئية، وخرير الماء الذي يلاطف أوراق الموز برقة ولين كأنه طبيب حاذق أو فنان أوبرالي مترف بالأحاسيس العتيقة، وترعات وروابي خضراء تحيط أشجار الباباي التي تئن على الحمل الثقيل.

 

هناك وفي جزيرة مزدانة بالخضرة الداكنة وقفنا نخلد ذكريات الأيام ونوثق صدى الساعات الطوال التي قضيناها مع الصحبة الأماجد والرفاق الكرام والطبيعة الفياضة، وهناك وعلى ذرى الطبيعة ووقع صوت العصافير التي تترنم كمعزوفة شرقية حالمة، وزقزقة الحمائم وشدو الطيور المزهوة بالخضرة، والبطاريق المتبخترة، والحدائق المترامية، والدروب الخضراء المتقاطعة ، والمروج التي تتزاحم علي جنبات الطريق، والأزقات الضيقة التي يعبرها القرويون بدراجاتهم وتقودنا نحن إلي قرية هرر التي تبعد قرابة 15كم  شمال أفجوي، كانت الوجوه تتلألئ، والأفواه مبتسمة، والجبين مشرقة،  وفوق الأغصان الملتفة التي إتحدت وتعانقت كأنها تحس دفئ الحب ومرارة الفراق وفي وسط زحمة الأعشاب الملتصقة بالنهر كان تغريد القمرية يسرّ الوجدان ويطرب العقول، وكأنها تردد أغنية الشوق والهوى لصاحبة الصوت الطري هبة نورا وحنجرتها الذهبية تردد رائعتها المشهورة:DOOB QALANJADIISI GABAY

 الأغنية الشجية أثارت مكامن العشق في القلوب الملتاعة، خاصة وأن معنا في هذه الرحلة التأريخية بنات يحملن حلاة الشكل وطراوة القد وملاحة الجسم، وفما ياقوتيا ونظرات ذات معاني ، وقامة هيفاء سمهرية وعينان نجلاوان ذوات كحل رباني ينعكسان جمال اللحظة وصفاء الحال، ووجها صبوحيا تنمقت يد الجمال عليه، وغمازات جانبية تجنن العاقل يزينها الحياء، وملامح صومالية دقيقة مشوبة بسمرة تمنح البشرة نضارة وللجسم رشاقة أصيلة.

 هذه الأجواء البانورامية التي تعطي المزاج طراوة، وتمنح الذهن صفاء، وتغتال الكدر والأسى ورواسب الحزن والألم وقتامة الوضع في داخل النفوس قبل أن ترى النور، كنت ضيفا علي كرم الطبيعة الباذخ، منازل متناثرة حول الجداول وبين أشجار المانجو والباباي وأغصان الجوافة تفوح منها رائحة البخور واللبان، وأجواء رومانسية مترعة بألق الغابات الكثيفة وجمالية البساتين المبهرة ورعشات الأعشاب المتواصلة، وصنوف الفواكهة والخضروات المتنوعة، والسحب المجلجلة التي تحجب الأفق، والأشجار الباسقات، والأنهار المتعرجة التي تشق وسط المروج والطبيعة العذراء في طريقها إلي جنوب الوطن ليتلاشي علي جبينه والمستنقعات الكثيرة لسهول الجنوب .

 بسط الأصيل ردائه الأرجواني على الكون ونحن نهمس أذن الطبيعة وننثر علي الضفة الجنوبية لنهر شبيللي كل الحكاوي والأحزان والأحاسيس العتيقة والمشاعر التي تصدح ماوراء المرئيات وفي سحيق القلوب المكتنزة بتباشير الحب، ونبحر في جو سريالي موغل في صفحات السعادة إلي أزقات الحياة الرائعة كأنفاس الحوريات الرقيقة.

 أخذتنا يد الجمال إلي كل المظاهر الطبيعية والأماكن التأريخية لمقديشو والمدن القريبة إليها، وكان هناك رابط يربطنا مع البهاء والجمال وسحر المزارع وعبق البساتين المفتوحة مدى البصر وأمواج البحر الهادرة.

واليوم تشبه مقديشو  في الخارج مدينة الرماد والركود وعاصمة السكون القبوري، وفي الداخل هي مدينة تعج بالطيبين والمظاهر الخلابة والأماكن التأريخية، وهي عاصمة تستعيد عافيتها وتنفض عن كاهلها غبار السنين وتراكمات الماضي، وتتجه أخيرا نحو التقدم والإستقرار ولكن بخطى ثقيلة أحيانا وثابتة أحيانا أخري.

 

حسن محمود قرني

حسن محمود قُرنَي كاتب ومدون صومالي خريج جامعة أفريقيا العالمية كلية العلوم قسم جيولوجيا.
زر الذهاب إلى الأعلى