أحلام ثقافية (4) عباقرة لهم أصول في منطقة القرن الإفريقي (5)

قبل أن ننهي الحديث عن الأعلام التي برزت في أكثر من ساحة في المنطقة العربية ينبغي أن نشير إلى أن هؤلاء ينقسمون إلى قسمين: قسم هاجر إلى تلك المنطقة ثم استقرّ فيها بعد وصوله هناك بسبب طلب العلم أو نشره، وقسم آخر ولد هناك أو ينحدر من أجداد لهم أصول في منطقة القرن الإفريقي ولكنهم تفرّقوا في أماكن مختلفة.

ولم تكن بلاد الحجاز المقصد الأول والأخير لوجهة هؤلاء ، فقد شدّ طلبة العلم أيضاً رحالهم- كما أشرنا سابقاً- إلى حضرموت وعدن وزبيد ودمشق والقاهرة  والقيروان وغير ذلك من منابع العلم، فظهر تكتل كبير من العلماء وطلبة العلم وخاصة أهل الصومال في تلك البلاد ، فنبغ جهابذة العلم والمعرفة في زمانهم كأبي عبد الله محمد بن علي بن أبي بكر المقدشي معيد مدرسة البادرائية في بلاد الشام  [1].

والحقيقة أن بلاد الشام كانت موطناً يشدّ إليها طلاب العلم من جميع أصقاع المعمورة ، إذ إنها كانت ملجأ للعلماء والفقهاء الذين كانوا موسوعيين ومتخصصين في المعارف والتخصصات العلمية للدين الإسلامي وغيره من العلوم … لذا ، فلا غرابة  أن تتجه أنظار أبناء الصومال إلى تلك البقعة الغنية بالمواهب والخيرات العالية التي ربما لم يتوافر مثلها في أي مكان من هذه المعمورة. ومن بين الذين تلقوا العلم في بلاد الشام  أبو محمد عبد الرحمن بن عبد الله الجبرتي ، المقرئ المؤدب ، وقد نهل من دروس المزيّ ، عندما زار دمشق ، ولا شك أن حلقات الحافظ المزيّ كانت تتميز بعلم الحديث وفنونه [2]. والظاهر أن هذا التوجه والاهتمام كان يشمل أيضاَ  أبناء منطقة القرن الإفريقي جميعاً ، وليست خاصة ببلاد الصومال فحسب ، إذ أن المسلمين في المنطقة كانوا في وضع واحد نسبة للاحتياجات العلمية والثقافية . ومن هؤلاء الذين رحلوا إلى منطقة بلاد الشام وقطعوا مسافات طويلة ، ثم استوطنوا فيها عائلة محمد بن أبي بكر بن محمد بن أبي بكر قوام الدين أبو يزيد بن الشرف الحبشي ، حيث إن هذه العائلة استقرت في مدينة حلب ، وقد ترجم السخاوي [3]  كل من صاحب الترجمة وأبيه وجده ، وكان الحبشي هذا أكبر إخوته ، وقد تلقى العلم على يد علماء أجلاء في حلب [4] وغيرها في داخل بلاد الشام حينما زار بيت المقدس وجاور به سنتين[5].

وعند مجاورته لبيت المقدس التقى بإمام المسجد الأقصى عبد الكريم بن أبي الوفاء وكان معه أبوه ، كما أنه خلال وجوده هناك اشتغل بها يسيراً، غير أن جلّ فترة وجوده قضاها في طلب العلم مع أبيه ، ومن بين شيوخه ، القاضي الحنبلي السيد محي الدين ، والحافظ السخاوي ؛ وقد أصبح محمد الحبشي إماماً بالجامع الكبير نيابة ، كما سافر مع عائلته إلي مكة [6] . وعلى الرغم من أن المصادر لم تنقل إلينا أخباره في الحجاز فترة وجوده فيها إلا أنه ربما التقى بعلماء المنطقة واستفاد من حلقاتهم العلمية ، إذ إن الحبشي كان مهتماً بالعلم وأهله ، وعلى كل حال فقد تلقى علوماً كثيرةً وحفظ الشاطبية بأكملها وعرضها بحلب في سنة ثلاث وثمانين وثمانمائة قبل سفره إلى الحجاز وبيت المقدس . ومن هنا فلا غرابة أن تجد رواقاً خاصاً لأهل زيلع أقيم في دمشق ، وكان هذا الرواق ملحقاً بالمسجد الأموي الذي بناه الخليفة الوليد بن عبد الملك ، علماً بأن هذا الرواق كان عبارة عن مقصورة كبيرة تقع شرق الجامع ، وكان هؤلاء الزيالعة يسكنون هذا الرواق ويلازمون فيه طلباً للعلم ولاسيما العلوم الشرعية ، وقد ذكر ابن بطوطة أنهم كانوا يحرصون على العبادة من صلاة وذكر وقراءة القرآن . والجدير بالذكر أن هذا الرواق كان به صهريج ماء لا نظير له  ليستخدمه هؤلاء [7]. ومهما كان ، فإن الزيالعة كرّسوا وقتهم لأن ينهلوا من العلوم الشرعية في الجامع الأموي حتى أظهروا كفاءة وفهماً أعانهم كثيراً في معرفة شرع الله [8] .


[1]  –  الزبيدي السيد مرتضى الحسيني : تاج العروس من جواهر القاموس تحقيق مصطفى حجازي ، مطبعة حكومة الكويتية 1379هـ/ 1977م ،  17/391 ، مادة ( م ق د ش )

[2]  –  – ابن حجر العسقلاني : إنباء الغُمر بأبناء العُمر ، تحقيق حسن حبشي ، القاهرة ، 1418هـ – 1998م ، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية ، لجنة إحياء التراث الإسلامي 1/25 – 26 .

[3]  –  وصف السخاوي به بأنه الحبشي الأصل ثم الحلبي

[4]  –  وكان ذلك في سنة ثلاث وثمانين و ثمانمائة

[5]  –  وتمت هذه الرحلة جمادي الأولى سنة خمس وثمانين وثمانمائة

[6]  –  – السخاوي ، شمس الدين محمد بن عبد الرحمن : الضوء اللامع لأهل القرن التاسع ، دار مكتبة الحياة ، بيروت – لبنان  7/191.

[7]  – ابن بطوطة ، أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن إبراهيم  اللواتي الطنجي : رحلة ابن بطوطة المسمّاه  تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأصفار ، بتحقيق الشيخ محمد عبد المنعم العربي ، دار أحياء العلوم ، بيروت – لبنان 1/73 .

[8]  –  –   زين العابدين السراج : الحياة الثقافية بالصومال في العصور الوسطى  ضمن مجلة البحوث والدراسات العربية ، العدد 13، 14، 1987م ، 2 216.

 

د/ محمد حسين معلم علي

من مواليد مدينة مقديشو عام 1964، أكمل تعليمه في الصومال، ثم رحل إلي المملكة العربية السعودية ليواصل رحلته العلمية حيث التحق بجامعة أم القرى قسم التاريخ الإسلامي حيث تخرج في عام 1991م، ونال الماجستير بنفس الجامعة في عام 1998م ،كما واصل دراسته في كل من السودان والنرويج، حيث نال درجة الدكتوراة بجامعة النيلين عام 2006م، أما في مملكة النرويج فقد تخصص بالدراسات التربوية وكذا الثقافات واللغات المتعددة في جامعة همر بالنرويج. وعمل أستاد التاريخ والحضارة الإسلامية في الجامعة الإسلامية في مقديشو - الصومال، وهو عضو في عدد من المنظمات المحلية والإقليمية والدولية، أصدر "ديوان الشاعر بعدلي" عام 2002م ، و"الثقافة العربية وروّادها في الصومال" عام 2010م، وله عدة بحوث أخرى، يقيم الآن بالنرويج .
زر الذهاب إلى الأعلى