ردة ولا أبا بكر لها

على هامش كتاب ”  حكم حد الردة ..” للأخ الفاضل عبد سعيد عبد إسماعيل سلمه الله من كل مكروه والذي أثير حوله زوبعة وثرثرة كثيرة،  رغم أنّ لغة الكتاب صومالية أضطرأن أستعير عنوان الكتاب ” ردة ولا أبا بكر لها ” لفضيلة الشيخ أبي الحسن علي الحسني الندوي، وهذا العنوان اقتبس به قبلي لفيف من العلماء والباحثين من بعد الشيخ ولكن عندما يتناولون في سياق مسلك سلكه الشيخ أبو الحسن الندوي وخاصة عندما يكون الصراع بين الحق والباطل – وهو مستمر إلى قيام الساعة – علما أن الحرب بينهما سجال، وعند دحض المخطط الإلحادي لزعزعة الثوابت وهدم الدين، وعند تمجيد العقل وإعلان الحرب على النص،  وعند التشكيك في نقلة النصوص، وعند الطعن في القرآن، وعند الطعن في ذات الله جل جلاله وما إلى ذلك. 

ولكننا نحن هنا نقتبس هذا العنوان لنبين بأن تصحيح مسار الدعوة وتبيين الحق مستمر ولا رجعة فيه، وقد اصبنا صدمة قوية عندما سمعنا وقرأنا من ينادي بتكفير الكاتب المذكور والافتراء عليه، والحثّ على حرق الكتاب وعدم اقتنائه وقراءته، فكانت الطامة الكبرى عندما وصل الأمر إلى المنابر والمواقع الإلكترونية.. 

ما هكذا تورد الإبل يا سعد!، وتلك شنشنوة نسمعها من أخزم، بل هي ردة ولا أبا بكر لها.

إذا كان المتطرفون انهزموا ميدانيا في الساحات العسكرية في أكثر من مكان  فلا نقبل أن يعود التكفير والتهجير مرة أخرى في مساجدنا وأروقتنا الثقافية، وأن يتغلغل في مدارسنا وإعلامنا، بل وطريقة تفكيرنا، وتفاعلات نفوسنا، ونسق معيشتنا.

نحن نستمر على الدرب بالتوضيح والتبيين بقضايا الدين الجوهرية بدون مجاملة ولا اعتبارات أخرى مهما كان الأمر. 

خلال الأربعين سنة تقريبا حصل تغيير جذري في الساحة الدعوية الصومالية، رغم ما كان يحيط الميدان من الحواجز والخواطر.، رفضنا الدعاء لغير الله والاستغاثة بالأولياء والصالحين رغم ما أثير في تلك الفترة من الزوبعة وألصق بنا بالتبديع والتضليل والمروق عن الدين، وبأننا ننكر كرامة الأولياء وقدسية الرسول صلى الله عليه وسلم ، ولكن اختفى الخرافات والخزعبلات علنا ، وما ذلك إلا عن طريق الدعوة  وتثقيف الأمة، والثبات على الحق. ولكن الضحية كان على أناس شجعان وعلى رأسهم فضيلة الشيخ أبي محمد نور الدين على بن أحمد رحمه الله وزمرته حتى أدى الأمر التفريق بينه وبين زوجته… وكاد المتطرفون أن يكونوا سببا بإحياء هذه التقاليد والعادات البالية عقب هدمهم بقبور العلماء وأضرحة الأولياء ومقامات الصوفية.

وفي السبعينات من القرن المنصرم امتلأت ساحات المساجد في الصومال بالفتية الذين التزموا بتعاليم الدين السمحة وبرز طاهرة الحجاب في المدارس والجامعات رغم عنفوان الشيوعية وهيمنة العسكر في البلاد ، ولكن الضحية كان فضيلة الشيخ أبو عبد الرحمن محمد معلم حسن رحمه الله  وبعض طلابه حينما زج بالسجون سنين عديدة.

وخلال تلك الفترة اختفى في مساجدنا الجهر بالبسملة والقنوت في صلاة الفجر رغم  صحة ذلك وثبوته في المذهب الشافعي السائد على المنطقة وغيره، كما اعترضنا على زواج المسافة البدعي رغم أنه كان منتشرا على الساحة ، وعلى اثر ذلك اختفى على الأنظار، وذلك عقب رجوع الرحلات العلمية من الحجاز رغم ما ألصق بهم بأنهم وهابيون مبتدعة.

وخلال الفترة المشارة إليها آنفا برزت كتبا ومصادر لم تكن في الساحة العلمية في  الصومال بحيث برز كتب العقيدة الطحاوية والوسطية وكتب العلامة أبي العباس أحمد ابن تيمية وكذا ابن القيم الجوزية ومحمد ابن عبد الوهاب رحمهم الله جميعا، فحصل خلاف وجدال بين مشايخنا وبين أصحاب العقيدة الأشعرية في توحيد الأسماء والصفات دون الصاق الناس بالكفر والمروق عن الدين تأسيا بعلمائنا الأجلاء في العالم الإسلامي كسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز والشيخ محمد صالح بن العثيمين والشيخ محمد ناصر الدين الألباني رحمهم الله رغم أنه قٌرر أكثر من مرة حرق بعض الكتب مثل كتاب التوحيد لابن عبد الوهاب و غيره.

انتشرت السنة النبوية والحديث وعلومه في أرجاء الوطن وبدأنا ندرس المنظومة البيقونية ونخبة الفكر وهكذا على دواليك حتى تقوى حصيلتنا في الحديث ، وعلى إثر ذلك تعلمنا وجوب غربلة الحديث وعدم قبول أي كلام يلصق بالمصطفى عليه الصلاة والسلام ، وترتب على ذلك نقد السند والمتن أي نقد الداخل والخارج فعرفنا كتبا جديدة في الساحة مثل: كتاب كشف الخفاء ومزيل الإلباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس للإمام إسماعيل العجلوني، وكتاب المقاصد الحسنة في الأحاديث المشتهرة على الألسنة للحافظ شمس الدين السخاوي، وسلسلة أحاديث الصحيحة والضعيفة والموضوعة للألباني رحمهم الله…. وكان من البديهي أن نرفض بأن ينسب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم مثل الأحاديث” من حج ولم يزرني فقد جفاني ” وحديث ” من زارني بعد موتي فكأنما زارني في حياتي ” وحديث ” من زارني بالمدينة محتسباً كنت له شفيعاً شهيداً يوم القيامة ” ، رغم ما الصق بنا من التبديع والتضليل وأننا ننكر محبة الرسول صلى الله عليه وسلم وزيارته – ونعوذ بالله من ذلك – 

وإذا قام أحدنا اليوم بغربلة بعض الأحاديث ونقده نقدا داخليا وخارجا أي يقوم بنقد السند أولاً واستعرض بما ذكره بعض أهل الاختصاص ثم ينظر المتن وما يحمل  في طياته من الأخبار ورأى الباحث بأنّ  ذلك لا يليق أن ينسب إلى حبيبنا محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم فما الضير في ذلك حتى وإن جانب الصواب وأين يأتي الكفر والسب للرسول صلى الله عليه وسلم،  مثل الحديث:
{بُعِثْتُ بَيْنَ يَدَيْ السَّاعَةِ بالسَّيْفِ، حتى يُعبدَ اللهُ وحدَه لا شريك له، وَجُعِلَ رِزْقِي تَحْتَ ظِلّ رُمْحِي، وَجُعِلَ الذِّلَّةُ وَالصَّغَارُ عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرِي، وَمَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ}، فليت شعري فأنى يأتي الكفر لمن يدافع الحبيب صلى الله عليه وسلم وينزه عن الخطايا ، ولكني اعتبر شخصيا أن ذلك ما هو إلا ردة على الأعقاب ونكارة على المنهج الصحيح، بل رفض بالتجديد وغربلة الأخبار وتفتيش الروايات، وعرقلة بالبحث العلمي وحرية القراءة.، أما أن يوصى على المنابر بحرق المجهود العلمي وطرد العلماء والباحثين من الفنادق ومضايقتهم والصاقهم بتهم لا صحة لها ما هي إلا تقهقر وانهزام، واعتراض على الحرية والبحث العلمي، فلا نقول إلا حسبنا الله ونعم الوكيل. 

فأما تفاسير القرآن كتفسير ابن كثير فلا ضير إذا أشير إلى ما يكمن تلك التفاسير بالإسرائيليات ونعرف بأنه يوجد في تفسير ابن كثير بعض الاسرائيليات، إلى جانب عنايته بالرواية الصحيحة للسنة وآثار السلف ، والتحقيق في المسائل وحسن الجمع والاختيار وهذه المرويات من الإسرائيليات لا تقص من قيمة الكتاب، وذكر المؤلف في ذلك في مقدمته بل ويمتاز بأنه يبين هذه الإسرائيليات عن طريق ذكر الإسناد ، علما أنّ من أسند فقد أحال، وبذلك أصبح تفسيره – حسب رأيي  – من أجود وأحسن التفاسير التي تعتمد عليها الأمة.

توقفنا عن الحركات التنظيمية في بداية التسعينات حينما بدا لنا الجنوح عن المنهج وعرقلة المواهب ورفض الحريات، بالإضافة إلى الإنحراف عن الطريق دون أن نرسل السهام على صدور تلك الحركات الإسلامية لأنّ لحومهم مسمومة ولئلا يقال فينا: 

علمته الرماية فلما أشتد ساعده رماني …….علمته نظم القوافي فلما قال قافية هجاني.

مع عدم سكوتنا من الحروب في المجتمع الصومالي المسلم في التسعينات في كسمايو ولوق وبوصاصوا وغير ذلك من انها كانت حرب فتنة واتباع لمنهج الخوارج، ولكن كل من قام بتصحيح المسار وعودة المنهج السلف ألصق بتهم لا تليق بمقامهم.

أيدنا حكومة الشيخ شريف شيخ أحمد زعيم المحاكم الإسلامية حين اختير رئيسا للجمهورية  لحفظ البلاد والعباد من الفوضى وعدم دخول البلاد في النفق المظلم مادام الأحباش انسحبوا عن وطننا الذي دخلوه عنوة بعد أن عاثوا في الأرض فسادا وقتلا وتدميرا، وقد استأنسنا على فتاوي علمائنا الكرام مثل سماحة الشيخ عمر الفارق حاج عبد سلطان الحسني رحمه الله، غير أنّ ألسنة المتطرفين لم تهتأ حيث رموه بالكفر والزندقة مع جلالة علمه وسعة صدره، وأنّ الأمر بالعروف والنهي عن المنكر شيء، وتكفير الناس وتوزيعهم بصكوك الإيمان والكفر شيء آخر، نرفض البابوية في الإسلام كما رفضت أروبا من قبل، ونخشى ما نخشاه أن يستغل البعض بتلك الأقوال التي تصدر على المنابر ويستبيحوا دم الأخ عبد سعيد عبد إسماعيل – سلمه الله من كل مكروه – كما استباح ثلة من الخوارج دماء علمائنا الأفاضل من قبل حين صدرت فتاوي من نيروبي تنادي بكفرهم ومروقهم عن الدين وأنهم عملاء للغرب وبالتالي تم اغتيال كلا الشيخين، فضيلة الدكتور أحمد حاج عبد الرحمن محمد حرسي ، وفضيلة الشيخ عبد القادر نور فارح رحمهما الله، بالأمس قتلوهما قتل الله، وما أشبه الليل بالبارحة، ونحن لا يسعنا إلا نردد قول من قال:

سقط القناع ومزقت أستار  ….   وبدا لنا وسط الظلام نهار

والشيخ إن ورد المنية مغضباً … فالشيخ فينا فارس مغوار

حتى ألاقي الله في ساح الوغى .. بدم الشهادة يختم المشوار

 

د/ محمد حسين معلم علي

من مواليد مدينة مقديشو عام 1964، أكمل تعليمه في الصومال، ثم رحل إلي المملكة العربية السعودية ليواصل رحلته العلمية حيث التحق بجامعة أم القرى قسم التاريخ الإسلامي حيث تخرج في عام 1991م، ونال الماجستير بنفس الجامعة في عام 1998م ،كما واصل دراسته في كل من السودان والنرويج، حيث نال درجة الدكتوراة بجامعة النيلين عام 2006م، أما في مملكة النرويج فقد تخصص بالدراسات التربوية وكذا الثقافات واللغات المتعددة في جامعة همر بالنرويج. وعمل أستاد التاريخ والحضارة الإسلامية في الجامعة الإسلامية في مقديشو - الصومال، وهو عضو في عدد من المنظمات المحلية والإقليمية والدولية، أصدر "ديوان الشاعر بعدلي" عام 2002م ، و"الثقافة العربية وروّادها في الصومال" عام 2010م، وله عدة بحوث أخرى، يقيم الآن بالنرويج .
زر الذهاب إلى الأعلى