أحلام ثقافية 4: عباقرة لهم أصول في منطقة القرن الإفريقي (3)

وما أشرنا إليه في الحلقتين السابقتين من علاقة أؤلئك الأعلام الذين كانت لهم أصول في منطقة القرن الإفريفي وعلاقتهم الحميمة مع ذوي السلطان في البلدان العربية في العصور الوسطى ما هي إلا فيض من غيض، ويبرهن ذلك قدم هذه العلاقة ورسوخها، ويدحض مزاعم من يقول عكس ذلك ، وتأكيداً على ما سبق فإنّ مثل هذ النوع من العلاقة لم يكن يقتصر فقط على الأعلام المشار آنفاً كالشيخ عبد الله الزيلعي راوية الجهاد في منطقة القرن الإفريقي وكذا الذي قبله وهو الشيخ محمد بن مومن فإنما هناك أيضاً كوكبة من العلماء والوجهاء كانت لهم علاقات مع بلاط السلاطين والخلفاء حتى تمكن بعضهم الهيمنة والسيطرة على قرارات القصور ودور الحكم، كما فعل الشيخ إسماعيل بن إبراهيم الجبرتي الذي كان له علاقات حميدة وصداقة قوية مع ولاة الأمر في عصره بل إن السلطان الأشرف – صاحب اليمن– قد اعتقد فيه(١) وعظمه بسبب مناصرته والوقوف معه عند حصار الإمام صلاح الدين الهروي الزيدي بزبيد .
والحقيقة أن علاقات الشيخ لم تكن تقتصر علي العلماء والأمراء فقط ،وإنما كان الشيخ محبوباً لدى العامة والخاصة ، وكان المجتمع اليمني يكنّ له كل التقدير والتبجيل بل وقد وصل الأمر أن ” صار أهل زبيد يذكرون له كرامات ” (٢)على الرغم من أن الجبرتي هذا كان مغرى بالسماع غير أنه كان مع ذلك متصوفاً خيراً عابداً حسن السمّت والملبس، يداوم على قراءة القرأن و لاسيما سورة يس في كل حالة لاعتماده فيها حديثاً ضعيفاً ، وقد أشار بعض من عاصره من العلماء إلى أنه كان مُجداً في مقالة ابن عربي ،بل وناصراً لفرقتة حيث كان يدعو لفكرة الاتحاد و الحلول ويقررها ، بل كان لا يلتفت إليه من لا يحصّل كتاب ” الفصوص لابن عربي ” من أصحابه. وقد سببت له هذه الفكرة معارضة من قبل بعض العلماء أمثال الشيخ صالح المصري والفقيه أحمد الناشري(٣) عالم زبيد ، كما كان دأب العلماء لأداء رسالتهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، غير أن هذين العالمين وأتباعهما لم يقدرا علي شيء من تغيير فكرة الشيخ ومعتقده لميل السلطان إليه ومناصرته له ، بل تلقى من قام على وجه الشيخ الجبرتي النفي والتضييق(٤) .
ومما يؤكد من أن الشيخ إسماعيل الجبرتي كان رجلاً ذا كلمة مسموعة عند سلطان زمانه أنه – أي الشيخ – قد طلب من السلطان إنزال عقوبة ضرب بالسياط على الشيخ صالح المكي ، فضرب بالسياط ضرباً مبرحاً بأمر من الشيخ إسماعيل بن إبراهيم الجبرتي ، لعلّة لا نعرفها ولكن ربما أن الشيخ صالح اغترف دنياً ومخالفة للشرع أدت إلى ضربه ، وإلا لم يكن الشيخ إسماعيل يتجرأ علي ضربه ، كما أن السلطان لم يكن يوافق على ذلك لو لم يكن الشيخ إسماعيل محقاً في ذلك وراعياً لمصالح الدين والدينا ،ويؤكد ذلك أن العقوبة لم تقتصر على عقوبة الضرب والجلد ، وإنما اضطر الشيخ إسماعيل لإخراج الرجل من اليمن كليةً ونفيه إلى بلاد الصومال (بر العجم ) بعد موافقة السلطان على ذلك ، ووكل أمر ذلك إلى أمير البلد فأرسله الوالي إلى البحر وأمر نوابه أن يرسلوه إلى الصومال ، غير أنهم لما صاروا به في البحر جاءت الرياح من حيث لا تشتهي السفن وصرفتهم عن مقصدهم ، لأنه كان يوماً شديد الرياح ، وألقتها في ساحل الحديدة ،فأقام هناك متستراً مخافة من الشيخ إسماعيل والوالي(٥) . وعلى كل حال فإن الشيخ إسماعيل كان من أهل العلم في زمانه وحدّثه بالإجازة عن القاسم بن عساكر وبخاصة عن أبي بكر بن المحبّ ،(٦) وقد توفي الشيخ إسماعيل بن إبراهيم الجبرتي في نصف رجب سنة 806هـ وله بضع وثماثون سنة(٧).
وقد ترك الجبرتي بيت علم وصلاح وكان ابنه معروفاً من قبل العلماء المشهورين في زمانه ،وتوفي في ليلة الأربعاء السابع من شهر ربيع الآخر سنة سبع و تسعـيـن وسبعمائة(٨). كما أن حفيده جمال الدين محمد المعروف بابن إسماعيل الصوفي من العلماء النابغين في عصره حتى أطلق عليه لقب شيخ الشيوخ(٩).

 

المصادر والمراجع

  1- وذلك أنه بشر السلطان الأشرف بالنصر وبهزيمة الإمام الهروي هذا . 

2- ابن حجر العسقلاني ، شهاب الدين أحمد بن علي ( ت 852هـ ): إنباء الغُمر بأبناء العُمر ، تحقيق حسن حبشي ، القاهرة ، 1418هـ – 1998م ، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية ، لجنة إحياء التراث الإسلامي 2/ 272 – 273 

3 – هو أحمد بن أبي بكر بن علي الزبيدي ،وكان شديد الحط على ابن تيمية في اليمن …( انظر ترجمته كل من بن حجر العسقلاني : المصدر نفسه والصحفة ؛ والسخاوي ، شمس الدين محمد بن عبد الرحمن : الضوء اللامع لأهل القرن التاسع ، دار مكتبة الحياة ، بيروت – لبنان، 1/207 – 258 ). 

4 – ابن حجر العسقلاني : أنباء الغمر في أبناء العمر ، نفسه الصفحة 

5 – الخزرجي : العقود اللؤلؤية في تاريخ الدولة الرسولية ، عنى بتصحيصه محمد على الأكوع الحوالي ، جزآن ، مركز الدراسات والبحوث اليمنية ، بصنعاء ، 1983م ، دار لآداب ، بيروت لبنان 2/225 .

 6 – ابن حجر العسقلاني : المصدر السابق و الصفحة.

 7 – ابن حجر العسقلاني : المصدر نفسه و الصفحة.

8 – الخزرجي : المصدر السابق 2/223.

 9 – كان من المشائخ الصالحين وتوفي يوم الاثنين الثالث والعشرين من شهر شوال سنة خمس بعد التسعمائة ودفن في قبر والده داخل قبة جده الشيخ إسماعيل الجبرتي ، وكان له مشهد عظيم لم تر العيون مثله . انظر( العيدروسي ، شمس الشموس محي الدين عبد القادر بن شيخ بن عبد الله العيدروسي : تاريخ النور السافر، تحقيق محمد رشيد الصفار ، بغداد ، 1934م ، ص 42 )

د/ محمد حسين معلم علي

من مواليد مدينة مقديشو عام 1964، أكمل تعليمه في الصومال، ثم رحل إلي المملكة العربية السعودية ليواصل رحلته العلمية حيث التحق بجامعة أم القرى قسم التاريخ الإسلامي حيث تخرج في عام 1991م، ونال الماجستير بنفس الجامعة في عام 1998م ،كما واصل دراسته في كل من السودان والنرويج، حيث نال درجة الدكتوراة بجامعة النيلين عام 2006م، أما في مملكة النرويج فقد تخصص بالدراسات التربوية وكذا الثقافات واللغات المتعددة في جامعة همر بالنرويج. وعمل أستاد التاريخ والحضارة الإسلامية في الجامعة الإسلامية في مقديشو - الصومال، وهو عضو في عدد من المنظمات المحلية والإقليمية والدولية، أصدر "ديوان الشاعر بعدلي" عام 2002م ، و"الثقافة العربية وروّادها في الصومال" عام 2010م، وله عدة بحوث أخرى، يقيم الآن بالنرويج .
زر الذهاب إلى الأعلى