أحلام ثقافية(٤) عباقرة لهم أصول من منطقة القرن الإفريقي 4

ونواصل الحديث عن أخبار شخصيات علمية ينحدرون من منطقة القرن الإفريقي ولهم علاقة ببلاط الخلفاء والسلاطين ودٌور الحكم في اليمن رغم أننا نشهد هذه الأيام سقوط قصور الحكم في صنعاء على أيدي الحوثيين ما عدا حتى كتابة هذه السطور بالقصر الرئاسي، ومهما كان فإن المصادر اليمنية في العصور الوسطى مليئة بأخبار مثل هذا النوع رغم أنها متناثرة في ثنايا الكتب مخطوطه ومطبوعه، وفي هذه الحلقة سوف نركز على علاقة من نوع آخر تميل إلى جانب التربية والتعليم ومساعدة المحتاجين، علماً أنّ الأدوار الثقافية المختلفة التي كان يشارك فيها سكان الحبشة ، سواء كانوا صوماليين أو أحباشاً أو غيرهم في بلاد اليمن كانت حاضرة في ميادين متعددة حتى وصلت إلى قصور الخلفاء والسلاطين ، وكان بعض من هؤلاء مربي مشهور يتولى تربية أولاد الخلفاء في داخل بلاطهم بعد أن وصل خبره إلى ذوي السلطان في اليمن ، كما فعل ذلك أحد المثقفين من منطقة القرن الإفريقي وأساتذة التربية والتعليم في نهاية القرن الرابع الهجري في بلاد اليمن الذي قام بكفالة عبد الله و زياد ، أبني أبي الجيش إسحاق بن إبراهيم سلطان دولة بني زياد ، ويسمى هذا الأستاذ السيد رُشد ، وكان عبداً مملوكاً لأبي الجيش إسحاق بن إبراهيم نفسه وقد تولى هذا الرجل تربية أحد أبناء السلطان عقب وفاته حين انتقلت كفالته ورعايته إلى اخته هند بنت أبي الجيش ،غير أنه لما توفي رُشد قام بكفالة الابن إلى حسين بن سلامة وصيف من أولاد النوبة ، وينسب إلى أمه ،علماً أنّ الأخير نفسه قد كان هذّبه رُشد ، وأحسن تأديبه ، فخرج حازماً عفيفاً ، وقام بالأمر ووزر لولد أبي الجيش وأخته .. “(١) ولاشك أن ذلك يؤكد الدور الثقافي والعلمي الذي كان يبذله هؤلاء العلماء ، وأن جهودهم قد توغلت في سكني الخلفاء النبلاء في القطر اليماني في تلك الفترة المبكرة ، وهذه المهمة كان يؤديها هؤلاء العلماء – أحرارً كانوا أم عبيداً – ولم يمنعهم على أي طرف كانوا عليها .
ورجال منطقة القرن الإفريقي من العلماء وأهل الخير كانوا أيضاً يشاركون في أعمال البر والخير في اليمن ، لاسيما منطقة زبيد التي اشتهر فيها نخبة من علماء المنطقة أمثال : فرج السحرتي(٢) ، وكان على باب زبيد من داخل السور ، وكان السحرتي من أهل الإحسان والخير كثير الصدقة والإنفاق ،يحتضن المحتاجين والمنكوبين ، ومن شدة حرصه علي مساعدة الملهوفين كان يتجسس ويبحث أخبار الغرباء والمسافرين وبالذات المتعلقين بالمسجد والنازلين فيه ، أحياناُ كان يستعين بالآخرين لتحقيق ذلك . ومن الأبواب التي شارك السحرتي هذا وساهم فيها مساعدة المتزوجين والراغبين في العفة وبناء بيت سعيد حين لقي أحد الشباب الراغبين في الزواج يقال له الصليحيّ(٣) .
وابداعات هؤلاء ولمساتهم الحضارية وآثارهم الثقافية تجاوز حدود اليمن جنوبه وشماله بحيث لم تكن تقتصر فقط عليها وإنما شملت أيضا بلاد الشام حتى سطع نجمهم في سماء الشام الشيخ محمد الشمس الزيلعي الشهير بين الشاميين بخطه الحسن المتميز ، إذ كان عارفاً بالخط وبالميقات ، وقد تعلم الناس منه وتأثروا به حتى أخذ عنه غالب أهل الشام. ومن الذين استفادوا من مدرسة الزيلعي وخطه الجميل ، الشيخ محمد بن محمد الشمس الحبشي(٤) الدمشقي الكاتب ، وليس الدمشقي وحده ممن استفاد من مجالس الزيلعي ، وإنما غالب الشاميين انتفعوا به ، وتعلموا منه ، وليس هذا غريباً على الزيلعي ، إذ إليه انتهت رئاسة الفن بدمشق ، وكان كاتباً مجوداً ، وقد كتب مصاحف كثيرةً جداً وغير ذلك بل وتصدى لتكتيت ، مما يدل على أنه كان يعتمد على هذه الحرفة ويترزق فيها ، بالإضافة إلى تميز الزيلعي في الفن وتفوقه فيه فإنه كان أيضاً ملماً بعلم الأعشاب عارفاً له حتى تفوق على شيخه ابن القماح الذي أخذ عنه بل إن شيخه هذا كان يفضله على نفسه فيه ، وقد توفي الزيلعي في شعبان سنة 863هـ ، وقد جاوزسبعين سنة .
ومهما كان فإن محمد الشمس الزيلعي كان رجلاً صالحاً خيراً ، وترجم له الحافظ بن حجر العسقلاني في كتابه أنباء الغمر في أبناء العمر ، كما ترجم عنه الحافظ السخاوي ناقلاً عن شيخه العسقلاني(٥) .

المصادر والمراجع
 1 – تاج الدين عبد الباقي بن عبد المجيد اليماني : تاريخ اليمن المسمَّى بهجة الزمن في تاريخ اليمن ص 32 ، تحقيق مصطفى حجازي ،دار الكلمة صنعاء ؛ الطبعة الثانية ، سنة 1985م . 

2 – السّحرتيون : بطن في الحبشة . انظر تاج الدين عبد الباقي بن عبد المجيد اليماني : المصدر نفسه ص 68 – 70 .

3 – عمارة اليمن ، نجم الدين عمارة بن علي اليمني : تاريخ اليمن المسمَّى : المفيد في أخبار صنعاء وزبيد وشعراء ملوكها وأعيانها وأدبائها ،بتحقيق والتعليق محمد بن علي الأكوع الحوالي ، المكتب اليمنية للنشر والتوزيع – صنعاء ، الطبعة الثالثة ، 1985م ، ص 85 – 86 . والصليحيّ : هو علي بن 2محمد الصليحي ، انظر ترجمته المصدر نفسه ص 83 هامش رقم ( 1 ) . 

4 – بضم أوله ثم الجيم مشددة ، نسبة لقرية من قرى الشام يقال لها الحبش. 

5 – انظر السخاوي : مصدر سابق 10/38 ، 111.

د/ محمد حسين معلم علي

من مواليد مدينة مقديشو عام 1964، أكمل تعليمه في الصومال، ثم رحل إلي المملكة العربية السعودية ليواصل رحلته العلمية حيث التحق بجامعة أم القرى قسم التاريخ الإسلامي حيث تخرج في عام 1991م، ونال الماجستير بنفس الجامعة في عام 1998م ،كما واصل دراسته في كل من السودان والنرويج، حيث نال درجة الدكتوراة بجامعة النيلين عام 2006م، أما في مملكة النرويج فقد تخصص بالدراسات التربوية وكذا الثقافات واللغات المتعددة في جامعة همر بالنرويج. وعمل أستاد التاريخ والحضارة الإسلامية في الجامعة الإسلامية في مقديشو - الصومال، وهو عضو في عدد من المنظمات المحلية والإقليمية والدولية، أصدر "ديوان الشاعر بعدلي" عام 2002م ، و"الثقافة العربية وروّادها في الصومال" عام 2010م، وله عدة بحوث أخرى، يقيم الآن بالنرويج .
زر الذهاب إلى الأعلى