موسم العودة إلى الجنوب 2-3

هبطت الطائرة علي مدرج مطار آدم عبدالله الدولي الذي يقع في شدق المحيط الهندي، وما إن نزلنا عن الطائرة حتي انتعشتنا الهواء التي تهب من البحر محملة برذاذ المياه المتناثرة لحظة إرتطام الأمواج علي جدار الصخور الصماء المحيطة بها، دخلت المدينة أوعمق مقديشو النابض بالحياة رغم الأيام المظلمة كالليالي التي إغتالت القيم الباسمة والوجه المشرق لحمر، والتشويه المقصود لمعالمها بسبب الصراعات العبثية والحروب التي لم يستطع طرف أن يتغلب علي خصمه لا بقوة السنان ولا بحجة اللسان  ولا بمنطق القبلية العاجز عن النجاحات.

مقديشو مازالت تاج الصومال الجميل وسرة المدن الصومالية رغم أنها تزرح تحت جور الأحفاد وظلم الأولاد ودمار كبير طال كل المرافق ومعالمها التاريخية وآثارها العمرانية، ورغم الركام الهائل والإنهيار الذي أصاب المدينة إلا أنها وكعادتها دائما ما تبتسم لوجوه محبيها وبطريقتها الخاصة، وفي طيلة تواجدي في المدينة كنت ضيفا علي جمالها الروحي الذي دب في وجداني الأنس والسرور كدبيب الندى في الورود، وبين شغفي لها واحتفائها بي إلتقى الحب مع العرفان وتعانق العشق والوفاء، ورسما لوحة جميلة من التعلق الذي يتولد بين المحبين أو الآثمين بالهوى التائهين في أزقات الحياة ودروب الحكايات المترعة بشأبيب العشق  المتدفقة.

 قد لا تعجبك المدينة بكثرة مرافقها الحيوية وتعدد خياراتها السياحية وأمنها المنضبط، ولكنها بالتأكيد تسحرك بجمالها الطبيعي وهوائها البليل والأمطار التي تأتي فجأة  ودون أن ترمش الشمس أعينها، ومروجها التي تغرد الطيور ويشدو الحمامعلي أغصانها ، وتلالها الواسعة التي تحتضن الخمائل، وروابيها التي تداعب الجداول .

 وبما أن الزائر إلي مقديشو تعتبر زيارته ناقصة مالم يخلد ذكراه في الساحل الذهبي للصومال ذهبت إلي منتجع ليدوLIIDO السياحي الذي يعد أرقي وأجمل شاطئ في الصومال منتهزا وداعة الليل وخيمت اللقاء التي جتمعتني مع الأحبة، ورغم تأخر الزمن وخطورة الموقف كنت مضطرا لزيارة الشاطئ الذي ملئت حكايته الجميلة أسماعنا علي طول السنة، وعندما كنت أحتسي كأس الغربة وأدلف فيها كدلف الضوء علي التلال.

عتمة الليل وضعف الإنارة أخفيا عنا كثيرا جمال البحر وزرقة المياه والأجواء المترعة بالبهجة والحبور والتأمل في الأمواج الهادرة، خاصة وأنها هي المرة الأولي التي أشاهد المحيط وروائحته الزكية مثل هذا الوقت وأنا ألهو وألعب مع أصدقاء الطفولة وزملاء المدرسة وميادين الحداثة وملاعب الطفولة، والأحاديث عن الأحباب أسمار.

 وتحت قبة الليل المقدشاوي المميز صعدنا علي ذرى الذكريات والأيام الخالدة وتصفحنا أروقة الماضي وعقول الرجال، وتجاذبنا أطراف الحديث الممتع والمتشعب الذي يدخلنا تارة في السياسة ومرة في الرياضة ومرة في المرأة والسمراء الصومالية، وهل ينتهي الحديث وأنت في صحبة محمد مصطفي مستودع الحكاوي ومخزن الوداد والصفاء؟ ومن كنا نردد زمن المنافي:

 إذا مرضنا تداوينا بذكراكم *** ونترك الذكرى أحيانا فننتكس.

جلسنا فوق الرمال الحاني نضحك وننظر علي عجل الهمسات القشعريرية التي يمارسها المحبون، والقهقهات المسائية للأصدقاء الذين يتسابقون علي الشاطئ، والأطفال الذين يلعبون فوق الرمال ويمارسون هوايتهم المفضلة بعيدا عن ضيق البيت وصخب الأسرة، وعادة ما يتولد الحب والشوق في الأماكن الخلابة وعلي وقع نغمة الأوتار الكلاسيكية، ولكن أصبحت من الغريب أن يفتح الجمال والليل المقديشاوي الأنيق شهيتنا للأكل وللحكايات الغابرة والماضي بكل تفاصيله.

تركنا المحيط والأجواء الباسمة للمنتجع عند الساعة العاشرة مساء بالتوقيت المحلي برفقة الأصدقاء الذين زيّنوا ساعاتي في مقديشو بدفئ مشاعرهم وكرم ضيافتهم وودهم الكبير، وحقيقة كانوا مرشدين سياحيين بالنسبة لي وهؤلاء هم الأستاذ: محمد شيخ علي، وعبدالباسط حمدي، ومحمد مصطفى محمد، وسعيد واييل.

وصلنا مبيتي في تلك الليلة الذي يقع في حي هدن بعد 40 دقيقة تقريبا، ونمت ليلتي وأنا أفكر جديا إلغاء الرحلة وتذكرت السفر من مقديشو درة الصومال إلي كسمايو عروس المحيط التي كانت محجوزة مسبقا، لأزور ساحل ليدو في يوم عرسه البهيج، يوم الجمعة الذي يعد يوما مشهودا في المدينة لكثرة الخلائق التي سئمت من الدماء والسواد وشبح الموت وتتمسك أي بارقة للأمل وتطلب من الطبيعة الإستجمام والراحة.

ولا أنسي أبدا أصدقاء الدراسة وزملاء الغربة أمثال عبداله مختار وحسن علي عبدي و ورفا ليبان ومحمد عمر ورسمة وعبدالرشيد بالي وغيرهم، الذين تعشيت معهم في فندق رمادا الذي كان يبدو جميلا ويقدم خدمات ممتازة نظرا للزمان وللمكان. وهنا يقف الحرف تقديرا لأشقاء الكتابة وأخوتي في نبض الحرف ووميض القلم، أتحدث عن الباسم الذي يحمل قلبا يسع للجميع عبده مهد شراحبيل، وزهراء قرني عمر رمانة الكاتبات الصوماليات بلغة الضاد، إضافة إلي صاحبة القلم السيال والأيقونة الأدبية فاطمة الزهراء أحمد، هؤلاء أصدقائي الذين أعتز بهم، ورغم قصر مدة اللقاء إلا أنهم تركوا في نفسي أثرا واضحا وبصمات لا يعروها دجى النسيان.

من مقديشو إتجهت جنوبا نحو خط الإستواء إلي كسمايو مرفأ الذاكرة وملعب الطفولة، والمدينة التي تركتْ في وجداني قصص الحب وحكايات الماضي الجميل، في النوم كان يراودني حلمها، أتذكر عن أحيائها وأزقاتها، عن المدرسة وأصدقاء الدراسة، عن الشواطئ والرمال الحريرية، وكان يهاجمني طيف الأسرة السعيدة والفتيات التي كنا نشارك معهم البسمة قبل الضحكة والنظرات التي تحمل فضول الشباب ونزوات المراهق.

في الصباح الباكر إتجهت صوب مطار آدم عبدالله الدولي، وكلمة “الدولي: تأتي عن نافذة الأمل والضفة الأخري من نهر الحياة التي نحلم أن نعيش فيها، والحياة البراقة التي نتشبثها في خضم المعاناة، والأماني الممزوجة بالدمار والدماء، وإلا فمطار مقديشو يعاني من القسوة والإهمال وأصداء السنين وندبات الحروب واضحة عليه، في صالة الإنتظار تعرفت معظم وجوه المسافرين إلي كسمايو رغم أني غبت عنها قرابة عقد من الزمن، وهذا المعرفة ساهمت في تخفيف وطأة السفر، وبعد ربع ساعة من المحادثات الجانبية بدأت أنخرط في حكايات المسافرين، ونظرا لكوني متشوقا لجميع المعلومات والأخبار عن كسمايو بدأت أسأل المسافرين عن المدينة وتطورها؟ وكيف إتسعت وعدد سكانها؟ والأحياء الشعبية للمدينة وأزقاتها المتعددة؟ و العشوائيات المتناثرة التي أحاطت الأحياء العريقة لمدينة كسمايو.

 اقلعت الطائرة عن المطار وسريعا إتحدت السماء بزرقتها مع زرقة المحيط الصافي، وفي منتصف الرحلة وأنا أحلق بين السحب والطائرة التي تشق عباب الهواء وتتهادى فوق المحيط الهندي كطاؤس يتبختر، كان المطر ينزل كأفواه القرب، وكانت السماء ملبدة بالغيوم والسحب المجلجلة التي غطت صفحة الكون، وكنت أستمتع جمال الطبيعة والرحلة الميمونة، وفي كبد السماء وعلي متن الطائرة الكينية الصغيرة كنت أتذكر الأحبة والرفاق الذين إلتقينا بهم في العاصمة الصومالية مقديشو، تلك المدينة التي لم يستطع الحرب والصراعات الداخلية أن يغتالا حلمها ولا أن يخطف الدمار إبتسامتها الرومانسية الخلابة، وكنت أنظر عبر نافذة الطائرة الزجاجية تعرجات الطرق والقرى الوادعة في سهول النهرين الخصبة، كما كان يأسرني الذكريات الأيقونية  لليل ليدو الجميل.

علي وقع الذكريات التي تهاجمني والأمطار المنهمرة وصوت الطبيعة الصاخب هبطت الطائرة علي مدرج مطار كسمايو الذي كانت آثار الترميم واضحة عليه، وبعد إجراءة بسيطة إتجهت إلي منزلنا الواقع في حي فرجنةFARJANO، وهنا إكشفت أن المدينة تغيرت وتعرضت لتجوية ديموغرافية وغزاعليها التغيرات الحياة والمعيشة، وصلت البيت برفقة صديقي أحمد محمود الذي إستقبلني هنا في كسمايو كما رحبته في جكجكا قبل هذا اليوم بشهر تقريبا.

دارت الأيام دورتها الطبيعية وتكيفت المدينة رغم الخوف والرعب ووصايا المحبين التي تنهال عليّ في كل حدب وصوب منذ أول دقيقة وطأت قدمي علي كسمايو، كن منتبها، لاتتحرك بوحدك، كن حذرا، ممنوع التجول بعد صلاة العصر، مزهقي الأرواح ومصاصي دماء الشعب منتشرون فوق كل شبر من تربة هذا المدينة التعيسة،! كنت ساذجا حينما صدقت كل هذه الأراجيف والأكاذيب المعلبة بالقوالب البراقة وثوب النصيحة المخلصة.

وفي يوم من الأيام وكسرا لحواجز الخوف وإذابة ثلج الرهبة ذهبت إلي الهضاب الرملية التي تحيط المدينة من جهة الشمال، جلست تحت شجرة وارفة الظلال حينما تحركت الشمس إلي مغيبها بطريقة متأنية ترسم اللون القرمزي الشفاف علي صفحة السماء وهي ترفع ذوئبتها، وسرب من الطيور المهاجرة رافق شفق المغيب وهي تعود إلي عشها وأوكارها المتدلية في الأغصان الكبيرة للأشجار، شدو الحمام وحفيف الأوراق وذرات الرمال التي تهبها الرياح كان كل ما صاحبت في هذه المدة.

داهمني الوقت كالعادة وأنا أسبح فضاء التأمل والسياحية، وخفت أن أتأخر عن الإفطار بعد يوم رمضاني تجولت فيها كثيرا، وقبيل الأصيل رجعت إلي المنزل وصليت المغرب، والأوراد الجماعية لمسجد حيّنا العتيق للطريق القادرية الصوفية تتناهي إلي سمعي بين حين وأخرى محملة بشعور إيماني قوي ونسمات وجدانية من الجمال تسري في داخلي.

الأذكار الجماعية للطيبين المتصوفة أذكى في نفسي جذوة الإيمان ومشاعل النور، وقرأت كتاب الله بجو خاشع، كنت أرتل القرآن وأتمعن في حروفه وأتدبر في معانيه ودخلت منطقة عالية تصفوا فيها الذهن وترتفع الشعور عن الدنيا وشهواتها، ولازمت المصحف إلى أن أذن المؤذن وبدأنا نفطر بعد يوم من الصيام يعتبر سهلا مقارنة برمضان الخرطوم الساخن الذي كانت تصل الحرارة بعض المرات إلي 50 درجة مئوية ونحن لا نملك رفاهية التبريد ولا الإمكانيات التي تجعل صيف الخرطوم الساخن ربيعا نضرا.

وبعد الإفطار إستلقيت علي ظهري أسترجع لحظات اليوم وأحملق حول القمر الذي ينير الدروب بطريقة قمئية ويرسل أشعته بضني شديد في ليلة ماطرة من ليالي الصيف التي تجود السماء دموع المآقي بحاتمية عجيبة، وفي وشاح العتمة السوداء والهواء الطلق وفناء البيت المفتوح إلي السماء، والنجوم المرصعة في كبدها والصفاء النادر، فتحتِ الأجواء شهيتي الكتابية وحرك الموقف مداد قلمي وتحرش القمر المتستر بالسحب غريزتي الكتابية المتواضعة.

 بدأت التدوين التي بدت وكأنها متسامحة معي ومنقادة في هذه الليلة، وبدأ صوت القلم السيال يشحذ همتي ويذكي شغف الحروف في عقلي، وصرير القلم يدغدغ مشاعري، وفي لحظة نادرة من الصفاء تذوقت لذة الكتابة التي أشهى من الشهد، وهاجمني طيفها المنبعث من كل أرجاء البيت والذاكرة، وفي أصقاع الوجدان السحيقة.

صليت العشاء حيث صليت المغرب خوفا من الغدر والإغتيالات المنتشرة في جنوب الصومال إضافة إلي المطر المنهمر، لم تدب السنة في جفوني والساعة تشير إلي الحادية عشر مساء بالتوقيت المحلي، صخب الطبيعة وصوتها الهادر هو العنوان الأبرز والصوت الذي لا يعلو عليه صوت، حيث هدير الرعد وصوت البرق لم ينقطعا منذ المساء، والضباب البسيط يلتف حول الأرض ويحجب الرؤية، وكأن كسمايو الناعسة علي جنوب خط الإستواء (علي بعد 30كم جنوب خط الإستواء) أصبحت مدينة رابضة علي الجزأ الشمالي للكون وفي القارات الباردة طول الموسم.

 نسائم المطر الندية تهب من المحيط، وعبق الأرض المبللة بالمطر تفوح من كل جهة، والصوت المترنم للأوراق والرائحة الزكية للأغصان التي تتمايل قربي تشبه ألحانا كلاسيكية وكأنها حفلة رقص رسمية، وعبق الزهور الفواحة التي تمنح أريجها بجود إلي الكون المتعب والأعشاب المرتعشة علي وقع الرياح التي تهب عن المحيط الهندي والأشجار الكثيفة التي تحيط بيتنا جعل المنطقة وكأنها مروج طبيعة وغابات إستوائية حيث عذرية الطبيعة سلمت علي أيدي العابثين والمهوسين بالتصحر الذي غزا مساحات كبيرة من الأراضي الخضراء.

 الحياة في الوطن وبأجواء رومانسية يزينها الرمضان وبعد سنوات الغربة والمنافي تعني أن تدب الحياة إلي أوصالك من جديد، وتعني أيضا ان ليالي الغربة الموحشة وساعات المهجر المخيف إنتحرت علي أعتاب البلد وفي وسط الأحبة والأصدقاء الذين يجعلون للحياة معني آخر أجمل وأحسن من معانيها حينما يكون الغريب فردا بلا عنوان ويدُكّ الصقيع كل خيط وعصب من جسمه، أو يلسع الحر علي جسده وهو متسربل ثوب الغربة ويعزف موسيقى الترحال علي وقع الأنين والشجن والحنين الجارف الذي غالبا ما يداهمنا في آخر الليل وفي هدأت السحر حين القلوب تصفوا، والأذهان ترنوا إلي تربتها، والجسد المتعب يريد أن يستريح ولو علي كرسي خشبي قرب محطة ليرى القادمين من بعيد.

 

حسن محمود قرني

حسن محمود قُرنَي كاتب ومدون صومالي خريج جامعة أفريقيا العالمية كلية العلوم قسم جيولوجيا.
زر الذهاب إلى الأعلى