أحلام ثقافية4: عباقرة لهم أصول في منطقة القرن الإفريقي(١)

ومن خلال قرآءة كتب التراث العربي يجد القارئ نخبة من العلماء والمبدعين في العالم الإسلامي وبالذات العالم العربي لهم أصول من منطقة القرن الإفريقي يشار إليهم بالبنان في العصور الوسطى والحديثة رغم أنّ هؤلاء صاروا جزء من مجتمعهم الجديد إلا أنّ سيرتهم وتراجمهم لمن جاء بعدهم أشاروا بأنهم من أبناء منطقة القرن الإفريقي وخاصة بلاد الصومال، ولعل هؤلاء كانوا يحلمون العودة إلى موطنهم الأصلي كما يحلم كل مهاجر ونازح العودة إلى أرض الوطن، ولكن الله قدر أن أصبحوا جزء من ذلك المجتمع الذي عاشوا فيه بل  ونبغوا في مختلف علوم المعرفة، ومن هؤلاء: العلامة الشيخ الفقيه فخر الدين بن عثمان بن علي البارعي صاحب كتاب” تبيين الحقائق لشرح كننز الدقائق” المكون من ستة مجلدات، والعلامة الشيخ المحدث جمال الدين عبد الله بن يوسف بن محمد صاحب كتاب” نصب الراية في ذكر أحاديث الهداية”. 

وهناك صنف آخر ممن ولد في تلك الديار بل وترعرع فيها ولم يرى قط أرض آبائهم وأجدادهم الذين قدموا على تلك البلدان كالشام ومصر والجزيرة العربية ثم استوطنوا فيها، ولعل الآباء ممن لم يفكر البقاء في تلك الديار فضلا عن الاستيطان ، كما أنه  ربما لم يخطر ببالهم بأنّ الله سوف يرزق  الله بهم من أصلابهم ذرية يسطع نجهم في سماء العلم والمعرفة، مثل عائلة المؤرخ عبد الرحمن الجبرتي صاحب عجائب الآثار في التراجم والأخبار والذي قدم على الديار المصرية جده العاشر، وكذلك المعالي الشيخ محمد بن سرور الصّبان وما أكثر غيرهم.

وقد تحدثٌت أخبار هؤلاء وغيرهم مفصلا في أكثر من كتاب وبحث ما عدا آخرهم وهو صاحب معالي الشيخ محمد سرور الصّبان الصومالي هكذا اشتهر بالحجاز بل يبدؤوا لقبه أنه صومالي الأصل ، كما ذكر ذلك خير الدين الزركلي في كتابه الأعلام ، إلا أنه من مواليد المملكة العربية السعودية وخاصة مدينة القنفذة عام 1316هـ الموافق سنة 1899م ، وانتقل إلى جدة وهو آنذاك في الرابعة من عمره. أما حاله مع أسرته والظروف التي فرقت بينهم هي غامضة ، وفي هذا الأمر يقول الزركلي: ” ولم أجد حال أسرته لاسيما أباه وأمه ، غير أننا وجدنا أنه حينما انتقل إلى مدينة جدة انضم إلى عائلة آل الصبان المعروفة ، وإن كنا لا نعرف الظروف التي أدت إلى ذلك لينتقل إلى تلك الأسرة ” انتهى. وخلال إقامتي في الحجاز مدة غير قصيرة  إبان دراستي في جامعة أم القرى فلم أبدل جهدا يذكر في البحث عن ذويه وأسرته لاسيما في السنوات الأخيرة التي التحقت بالدراسات العليا التاريخية والحضارية، غير أنني في أول أسبوع من شهر رمضان الماضي 2014م نزلتٌ ضيفا على أخي وأستاذي فضيلة الدكتور الأستاذ أبي سهيل سعد موسى الموسى أستاذ التاريخ والحضارة الإسلامية بجامعة أم القرى في مكة المكرمة حيث قدمتٌ عليه في مصيفه بالطائف ولم أخف بغيتي في معرفة الشخصية الصّبان وأسرته، وقد دار بيننا حديث طويل حول الشيخ محمد سرور الصّبان بعد صلاة التراويح وحتى في منتصف الليل، وبعد التردد والبحث وجدنا في مكتبة الدكتور العامرة بعض مصادر ومراجع تتناول رواد الأدب العربي في الحجاز ومن بينهم صاحبنا الصّبان ، ومن هنا وجدتٌ بصيصا من  الأمل بالإطلاع على أمر الصّبان وخباياه إذا بذل الجهد الحثيث وفتش المكتبات في الحجاز وخاصة في مكة وجدة.

ولعل أحدنا يتساءل لماذا كل هذا الا هتمام والجهد الكبير حول هذه الشخصية؟ ونستطيع القول المقتضب بأن الصّبان أحد الرواد الأدب العربي الحديث في عصره وصاحب الخبرة والحنكة الواسعة في مجالي الإدارة والاقتصاد حتى اسند إليه بعض الحقائب الوزارية في مملكة العربية السعودية في وقت مبكر– كما سيأتي الحديث عنه – ويكفي أن نذكر بأنه أول شخصية تولت في قيادة ورئاسة رابطة العالم الإسلامي بعد تأسيسها. ولا غرابة في ذلك لأنه – أي محمد بن سرورالصّبان – تربى تربية حسنة كما أشار ذلك كل من تناول ترجمته وحياته، حيث نشأ في هذا البيت الكريم في جدة ثم بمكة المكرمة ، وحينما استوى ساعده ونبغ في العلم عٌيِن موظفاً في بلدية مكة ، وذلك عام 1336هـ ، وإلى جانب عمله كان محمد سرور أديباً بارعاً ، حتى أصبح من رواد الأدب العربي الحديث في منطقة الحجاز ، واشتهر بذلك حتى التف حوله أناس كثيرون وخاصة الشباب الذين كان يتلهفون بنيل الأدب وضروبه ، فوجدوا بغيتهم عند الأديب محمد سرور الصّبان الصومالي ، حتى التفوا حوله في أواخر أيام حكم الأشراف بجدة ، وأوائل العهد السعودي.

وحينما دخل الملك عبد العزيز الحجاز لاسيما مكة وجدة ولم يخف معارضته في ذلك وتأييده للأشراف ، رغم قوة الملك عبد العزيز وكثرة قواته ، مما يدل علي شجاعته وجرأته وهو ما كان يتميز به أهل الصومال، ولكن هذه الشجاعة وتلك الجرأة أدت إلى أن عوقب بنفيه إلى منطقة الإحساء وفي أقصى شمال المملكة في عام 346هـ وذلك بسبب ميله إلى الأشراف وولائهم رغم إزالة نفوذهم في المنطقة وسيطر الملك عبد العزيز في البلاد حتى وحده جميع الأراضي التي يطلق اليوم على المملكة العربية السعودية ، فمكث الصّبان هناك قرابة اثنين وعشرين شهراً ، ثم رضي الملك عبد العزيز عنه وأطلق سراحه ، ومن هناك قرر العزوف عن السياسة وما يتعلق بها ، كما قرر الابتعاد عن كل ما يؤذي اصطدامه مع الأسرة الحاكمة والجديدة للبلاد ، فانصرف إلى النواحي الاقتصادية ، واشتغل بالتجارة ، كما أنه أنشأ شركات تجارية ، إضافة إلى كونه اشتغل إلى إدارة بعض الشركات كونه أصبح خبيراً في ذلك القطاع. ومن أعمال الإدارية أنه تولى بعض الأعمال الحكومية المالية عام 1350هـ ، حتى كسب مالاً وفيراً ، وثروة ً طائلةً ، فأصبح من التجار المشهورين في البلاد.

وبعد وفاة الملك عبد العزيز ، عٌيِن وزيراً للمالية، حيث كلف في ذلك ، على الرغم من عدم بحثه في ذلك وطمعه بها وذلك في عندما تولى زمام الأمور الملك سعود بن عبد العزيز. وفي عهد الملك فيصل بن عبد العزيز  عٌيِن أميناً عاماً لرابطة العالم الإسلامي ، فاستمر يعمل في خدمة الإسلام والمسلمين إلى أن انتقل إلى الرفيق الأعلى ، حيث مات بمصر ، إذ كان يعالج في مستشفى بمصر ، وذلك عام 1391هـ الموافق 1972م ، ونقل جسمانه إلى مكة حيث دٌفِن بها ، رحمه الله ،كان أريحياً محسناً ، مهتماً بالعلم ،حتى أنه أنفق على نشر  كتب عديدة كانت مخطوطة ومنها ما هو من تاريخ مكة المكرمة مثل كتاب ” العقد الثمين في تاريخ البلد الأمين” وهو كتاب عن تاريخ مكة ،لتقي الدين محمد بن أحمد الحسني الفاسي المكي، وكتاب ” شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام للتقي الدين الفاسي”  مما يدل على حبه وتعلقه بمكة ، وقد ترك الصبان مكتبة ضخمة تضم على جنباتها مجلدات من تنوع صنوف المصادر والمراجع ونوادر الكتب والأخبار القديمة والحديثة في مختلف العلم والمعرفة، كما احتوت مكتبة على كثير من المخطوطات والتي يستفيد منها حتى يومنا هذا الباحثون وطلبة العلم  وذلك بعد أن أهديت المكبتة إلى جامعة أم القرى بمكة المكرمة، وقد قدر الله أن اطلعتٌ بعض منها أيام دراستي بجامعة أم القرى بمكة .

أما الحديث عن آثار محمد سرور الصّبان العلمية والأدبية فيكفي أن نشير إلى أنه ترك للمكتبة العربية الحجازية بعض الكتب منها:” أدب الحجاز” ، هو كتاب مطبوع، وكذلك كتاب: “المعرض”، وهو أيضاً مطبوع. والحقيقة أنّ لهذين الكتابين شأن عظيم عند الأدباء. وهذان الكتابان ألفهما أديبنا وكاتبنا سنة 1344هـ، ـ.

 

 

 

د/ محمد حسين معلم علي

من مواليد مدينة مقديشو عام 1964، أكمل تعليمه في الصومال، ثم رحل إلي المملكة العربية السعودية ليواصل رحلته العلمية حيث التحق بجامعة أم القرى قسم التاريخ الإسلامي حيث تخرج في عام 1991م، ونال الماجستير بنفس الجامعة في عام 1998م ،كما واصل دراسته في كل من السودان والنرويج، حيث نال درجة الدكتوراة بجامعة النيلين عام 2006م، أما في مملكة النرويج فقد تخصص بالدراسات التربوية وكذا الثقافات واللغات المتعددة في جامعة همر بالنرويج. وعمل أستاد التاريخ والحضارة الإسلامية في الجامعة الإسلامية في مقديشو - الصومال، وهو عضو في عدد من المنظمات المحلية والإقليمية والدولية، أصدر "ديوان الشاعر بعدلي" عام 2002م ، و"الثقافة العربية وروّادها في الصومال" عام 2010م، وله عدة بحوث أخرى، يقيم الآن بالنرويج .
زر الذهاب إلى الأعلى