موسم العودة إلي الجنوب (1_3)

العودة إلي الجنوب الجغرافي وإلي كسمايو الباذخة بعد رحلة إستمرت عقدا من الزمن كنتُ تائها في سديم الغربة ورحلة المنافي السرمدية، وعبر تاج الصومال الجميل مقديشو كانت عودة تاريخية بإمتياز وحلما أيقونيا جميلا طالما داعبني في هدأة السحر وحينما أتذكر الأيام المتألقات والزمن الخوالي وذكريات الطفولة الآسرة، والمدارس والخلان وشواطئ كسمايو النظيفة، والسمرعلي أعتاب البيوت الطينية والطرقات الترابية، وأهداب القمر والبساطة التي كنا نعيشها في زمن الصبا، وحنين الماضي الذي يثير تغاريد الشجن في وجداننا الغارق بدموع المآضي وصدى الآهات والشوق الذي يقرب المسافات الفراسخ ويختصر الأزمان في ثواني.

كان خيول الشوق الجامحة تأخذني إلي الجنوب الناعس في حضن الجمال والطبيعة العذراء وهي تصهل وترنوا إلي ملاقات الأحبة الذين بسببهم أحمل رياحين الود وزهور اللهفة، والأرض الطيبة التي منحتنا حبا وحنانا يفوق الخيال ورياح الزمن السريعة ونغمة موسيقاها الندية والرحلة المترعة بالبهجة والجمال، ترسلني إلي ضفاف الأنهار الشامخة والحدائق الغنية بالورود والحقول الزراعية المصطفة علي جنبات الشارع كغابة إستوائة في عز الربيع أو كحقول السنابل التي تبتسم علي مشارف ألق الربيع علي ضفاف نهر جوبا التليد، وكانت لسعات الشجن من منبع الجمال إلي موئل العظمة تؤلم أحشائي وأنا أحمل عصى الترحال من جكجكا عاصمة الثقافة الصومالية العريقة إلي كسمايو عروس المحيط عبر هرجيسا درة الشمال وأيقونة حواضرنا الحبيبة مرورا بمقديشو سرة المدن الصومالية وزهرة مدائنها.

العودة إلي الجنوب الحنون وإلي ضفاف الأنهار والسواحل الحريرية للمحيط الهندي، وإلي كسمايو مهوى الأفئدة وقلب الصومال النابض، يعني رحيقا فواحا يعطر حياتنا الملئية بالنكد والحزن وأملا جميلا كانت شمسه لا تغيب عن بالنا وقفنا علي أعتاب تحقيقه، وقنديلا من الصفاء والمحبة يتهاوى أمامه جبروت الأسى ولوعة الغربة وجروح الليالي، وتعني أيضا أن نقف علي الخط الإستواء وفي وسط  السهول وتحت أشجار المانجو والباباي، وأن تبتسم وتضحك من عروق القلب وأنت تنفض غبار السنين ورمادية المنافي عن جسمك الشاحب ونظراتك الزائغة، وأن تنظر إلي ألبوم الصور ووجوه الأصحاب والجيران وحكايات الماضي من خلال الذكريات العابرة كزرائب الطيور، وأن ترقص طربا وأنت تراقب عبر الفضاء الإسفيري مرسال الشوق الذي يرسو علي شواطئ  الذكريات ومرفأ الذاكرة، وأن تستحضر لحظات البهاء في الميادين المفتوحة وساعات الطفولة الآسرة في حضن الأمهات.

كما تعني أن تبكي بحرقة بسبب أولئك الذين غادرونا بصمت إلي مراقدهم وبرزخهم، وتركوا بصماتهم الواضحة وحبهم الجارف الذي وضعناه في حدقات عيوننا وشغاف قلوبنا في حياتنا، أو من أجل الأماكن التي تغيرت والأزمان التي تنكرت والمعالم التي هرمت وشاخت، ومن أجل الأحباب الذين قد لا نلتقي بهم ولا نضحك معهم برحيلهم إلي أعماق النوى وسحيق الغربة القاتلة، وتعني أن تهمس بمحراب الحب الدافئ وجماله السرمدي، وأن يسرى في داخلك قشعريرة الهيام وأشواق العشق في الهزيع الأخير من الليل حين كان نسمات الصباح العليلة تأخذ إلي القلوب المجدبة ترياق الهوى، وأن تستلذ الذكريات العابرة لأول لقاء حمل تباريح الصبا في حياتك.

كانت الرحلة بين جكجكا الناعسة علي أكتاف الرونق وهرجيسا الوادعة علي ربي البهاء سلسة وممتعة للغاية، ولم أشعر عناء السفر ووعثاء الطريق بقصر المسافة والرفقة الرائعة الذين أغدقونا بحبهم وحنانهم الكبير، وممازاد سحر الرحلة ورواء السفر لقائي واحدا أعتبره من أعز أصدقائي الذي فرقنا الزمن بعدما ذهب هو إلي باكستان لدراسة الهندسة وأنا ذهبت إلي السودان لدراسة الجيولوجيا، كان اللقاء العابر في مدينة وجالي الزراعية المشهورة وبصدفة محضة وبدون موعد محدد!.

وقفت أمام المهندس أحمد عبدى علي زميلي في المدراسة الإبتدائية والخلاوي القرآنية في زمن الصبا وفي منتصف التسعينيات من القرن المنصرم، كان لقاؤه مصدرا لسعادتي ومشعلا لحبوري كما رفع منسوب الفرحة في وجداني، وبعد المعانقة الحارة والأحاديث الشيقة واصلت سيري نحو الهدف فدخلت هرجيسا في زمن المغيب وحينما رسم الشفق الأحمر لونه القرمزي علي صفحة السماء، آسرتني المدينة بنبضها وحيويتها الكبيرة وعرقها الصومالي الواضح وجمالها الطبيعي وأحيائها التي يبدو علي محياها التطور الكبير والعمارات الشاهقة والمباني المتعددة، وفوق ذالك كنت معجبا بسكانها الطيبين، وأحببت أناقة سمراواتها الطوال وتغنجهن الواضح والجمال الصومالي الذي يسري في عروقهن كأطياف نور القمر الساطع.

كنت أقتربت إلي السرحان الفكري وهذيان العشق الذي يحتفي بالمدينة وأنا أتنقل كفراشة السواقي بين أسواق هرجيسا الكبيرة ومرافقها الحيوية ومولاتها الحديثة والمقاهي الأنيقة، وأزقاتها المتعددة وشوارعها المترعة بجمال شعبها وبمانيها الناطحات وتاريخها الموغل في العظمة والتراث، وفي عز النشوة وأنا أتجول فيها مع رفيقي في الغربة وصديق الدراسة وزميل العلم مصطفى عبدالله الذي حرص أن أتعرف علي أحياء المدينة وحاراتها رغم قصر المدة والزمن الذي لا يسعفنا دوما عندما ننغمس في الملذات، حاولت أن اقبض حبها الذي يمطر عليّ بغزارة كسحابة عامرة بالمطر تفيض بما لديها حول قلبي المتعلق بالمدينة وأجوائها الربيعية النضرة.

جلسنا معا في المقاهي الفاخرة والمطاعم الرئيسة للمدينة، كما قضينا وقتا ممتعا في الفنادق الفخمة أمثال مانصور وسوقا تجاريا فخما نسيت إسمه دردشنا فوق سطحه والنجوم تراقبنا عن كثب وهن نيام في كبد السماء، وزرت معظم المواقع الأثرية والسياحية والساحات العامة والمعالم التأريخية للمدينة، كما زرت أهم المجسمات النضالية والتماثيل الوطنية التي خلدت لحظات النضال وساعات الكفاح والمقاومة حسب الكلمات المكتوبة علي صفح المجسم الرابض في وسط هرجيسا، وكان مجسم الطائرة الحربية التي يقال أنها كانت تقلع عن مطار هرجيسا وتقصف أحيائها وكانت في حينها ظاهرة غريبة في دنيا الحروب والصراعات أضخم المجسمات المدينة  وأعلاها.

هرجيسا مدينة جميلة هوائها بليل وسكانها طيب أمين، وأمنها مستتب لأبعد الحدود، والحياة فيها تتسم بالسلاسة والرومانسية، وتتسع المدينة يوميا وتغزو علي الأحياء الشعبية والضواحي البعيدة والبيوت الطينية القديمة، ولكن تعاني المدينة من قلة الشوارع والطرقات والزحمة المرورية، حيث تخنق الزحمة في المدينة مما يجبر علي السيارات  المرور في الشوارع الترابية الجانبة تفاديا عن الزحمة والإكتظاظ التي تشتهر المدينة به.

 بت في هرجيسا ليالي آنسة ولحظات من الود والصفاء، كان أطلال الماضي الفخيم يعذبني والتخيلات المجنونة تقض مضاجعي، ماذا لو كانت القيادة الصومالية منذ الإستقلال تتسم بالحكمة والأناءة والعقلانية؟ وماذا لو لم يحارب النظام السابق أهلنا في شمال الوطن؟ وماذا لو لم يحمل الشماليون السلاح علي وجه الحكومة وطلب أهلنا في الشمال حقوقهم عبر الوسائل السلمية بعيدا عن لغة البنادق وزخات الرصاص وحمرة الدماء وحمى التشريد؟ تركت عن هرجيسا وشعبها الودود وأنا لم أجد جوابا كافيا لأسئلتي التي تغرد خارج السرب مثلما فهمت عن تعابير صديقي، ولكن لم أفقد الأمل أن يرجع ذالك العهد الذهبي للأمة الصومالية من جديد، حينما كان الوطن موحدا والجميع يستظلون تحت العلم الأزرق بفخر وخيلاء، وحينما كان ينتمي الشعب بكل أطيافه ومكوناته وشرائحه وجميع قبائلة وأقاليمه إلي وطن موحد يسع الجميع.

كانت مؤلمة أن تشعر أنك أجنبي ينتمي إلي بلد أخر وغريب يحتاج إلي تأشيرة للدخول وأنت تعيش في عقر دارك وفي مدينة كانت يوما من الأيام مدينة الحب وشذى الألحان والفن الأصيل، ومهد الأدبـ وعاصمة يحمل الشوقُ إليها كل صومالي أصيل ملتاع بحبها الكبير، وكان يجتمع علي مائدتها الواسعة جميع شرائح الشعب الصومالي المهوس بعشقها، ولكن يجب أن نثمن الجهود الكبيرة التي بذلها شعبنا الأبي في شمال الوطن، وأن نقول لكل مواطن صومالي أبي ان يعيش في أجناح الذل والخوف وحرص أن يعيش بئية آمنة تراعي الحقوق وتعيد الكرامة واستطاع أن يتغلب منطق القوة والحروب وتحاكم إلي الدين والعقل والعراقة التليدة، شكرا أحسنت صنعا والباقي سيجئ إن شاء الله عاجلا أو آجلا، لأن أشواق الأمة الصومالية إلي بعضها البعض حينما ستنفجر من منابيعها الأصيلة ستكون  ماردة كالأمواج الهادرة وتتعالي كالسنديان، وحينما يسود العقل المتكأ علي العاطفة الجياشة سيكون شئا يفوق الخيال لا يحجمه السياسي العفن بمواقفه المتعجرفة ولا يقف أمامه المتاجرون بالعواطف، وستذلل الوطنية الحقيقية عقبات قد تبدوا اليوم من سابع المستحيلات، وسترسل الأخوة الصومالية الأتون القبلية والمشاكل إلي سكون القبور وفي طيّ النسيان وأعماق التجاهل.

وفي صباح يوم كانت رياح الصيف تهب بسرعة خيالية من الجبال والروابي القريبة للمدينة قطعت تذكرة  السفر لشركة دالو للطيران في رحلتها المتجهة إلي مقديشو عبر جيبوتي، وهي شركة طيران محلية تابعة لرجال أعمال صوماليين قامو مقام الخطوط الجوية الصومالية بعد إنهيار الحكومة وانعدام المرافق الأساسية والحيوية للدولة.

إتجهت إلي مطار عقال الدولي الذي كبر حجمه وزادت مرافقه الأساسية بسبب التوسعات الأخيرة حتي أصبح واحدا من أكبر المطارات في المنطقة ، وفي المطار كانت السلاسة والهدؤ والحيوية عنوانه ألابرز، موظفون في غاية النظافة والجمال، وعمال في قمة التهذيب والنشاط في الصباح الباكر. إنتهيت الإجراءة اللازمة في غضون لحظات قليلة وودّعت زميلي مصطفي عبدالله الذي رافقني إلي المطار.

جلست رفقة الركاب في صالة الإنتظار التي كانت مكتظة بالركاب المتجهين إلي جيبوتي الواقعة علي أهداب الجمال والرمال الحريرية للبحر الأحمر في طريقهم إلي مقديشو تاج الصومال الجميل، شربت قهوة الصباح علي عجل وأنا أفكر كيفية الرحلة التي إنزعجت منها بسبب طريقها الطويل لأني كنت أفضل رحلة مباشرة من هرجيسا إلي مقديشو.

كانت رحلة طبيعية في تفاصيلها الصغيرة وهادئة جدا في عمومها، لم أجد صحبة ماجدة من البشر سوى رجل مسن لم ننسجم في أفكارنا بل غرقنا في الشبر الأولي من حديثنا حول السياسة والواقع وحتي التاريخ، ولم أحمل كتابا أقطع به الطريق ويؤنس وحدتي، وبعد رحلة إستغرقت ساعتين ونصف تقريبا حلقت الطائرة فوق سماء مقديشو  الحبيبة التي كانت تحتفي القادمين من بعيد ومبتسمة كعادتها رغم الجراح وجحود الأحفاد، وعنما اقتربت إلي المدينة كان الدمار الهائل وأكوام الركام المتراكمة يذهل لبّي ويعقد لساني، وفي نظرة حانية لمعالم المدينة بدت لي المباني وكأنها أطلالا ومدينة مهجورة للأشباح.!

حسن محمود قرني

حسن محمود قُرنَي كاتب ومدون صومالي خريج جامعة أفريقيا العالمية كلية العلوم قسم جيولوجيا.
زر الذهاب إلى الأعلى