كتب في صدري عنوانا فسكت: (٢-٤)

إنني على يقين بأن المرحومة لم تكن هي الأولى مظلومة ومقتولة  ، على ظُبة الغشم، وفي قعر الهاوية، وفي هذا البلد، ولن تكون الأخيرة ، ولكن كانت أفظع حادثة، شاهدتها في حياتي؛ لذا تركت  ثقبة عميقة في صندوق نفسي، مما جعلني  أشعر مرارة الإحباط واليأس،أو أجد رائحة التمرد المستعصي في البلد الذي تتداخل عليه ملايين الكآبة، ويتفجر الظلم كلّ دقية مرات ومرات، ساحبا وراءه ذيل العدم الموحش ،الذي مزقها وسيمزقها في دقائق اليأس والشتات إلاّ برحمة من الله .

وقبل اغتيال المسكينة كانت الضحية الأخرى الشبيهة لها (الأدمرال حيد) وفي اليوم الثاني من أغسطس قتل محمد ديرو عضو آخر من البرلمان الفيدرالي في حمر وين بنفس الأسلوب ولم تحرك الحكومة شيئا تم كلّ ذلك في أقل من شهر . 

سبحان الله ! كم بقي لنا من الدمع حتى نصبر؟!وإلى متى سيظل أفقنا مخيما بأنياب ومخالب وسكاكين ؟ وعلى أرسفتنا تتجلط الدماء؟ ومتى نعرف الشمس قبل ضوئها؟ المتهم من؟ أخي الكريم لماذا نتعب أنفسنا بالسؤال عن هذا وذاك؟ مادامت الأيام هي التي سوف تجيب !عجبا! . 

إذن لامعنى لتكثير الأسئلة:عن نهاية المساة المحتومة على أهل مقدشو، والتي لا عمرلها في هذا البلد محدودا، نذرمقدشو وعبادتها للموت وتقديمها له في كلّ لحظة عشرات من أبنائها ، ثمّ فليمروا على ركام الجثث حتى تنتهي دورة الزمان  ثم ماذا؟.  

بقيتُ ويقيتْ الكارثة مناسبة لملء أفكاري وضميري وكلّ معنىً فيّ بكراهة البلد والشعب والوطن كلاً .

ولم أعد أدري ماذا أفعل!،إذ أنني على دراية بأن الشعب مجرم إلى أبعد حدّ، مما جعلني كأنّ نصلا حادا يخترق عن جسمي، ويؤجج نارا تختلف عن نيران الكون تماما .

فبم أصنع قرية عكست الأقدار استواءها؟ فعكست معها قواميسَ المصطلحات، والقيم والأخلاق إلى حد لا يمكن أن يتصوره الإنسان حتى صار الجبل حبة والحبة جبلا، “فحسبك من شرّ سماعه” أم بم أملك للضمير إذا قسا؟ وانعكست عليه المعاني، وفسد، ثم بفساده فسدالجسد كله؟،حاولت أن أزن الأمر بموازين أخرى وأعدّله تعديلا لكنّه بات مصمتا كأشدّما تحسه ، غير قابل للعيلاج ككرة حجر  .

والعجب أني تفرسرت وجوه العشرات أمام الفنادق العامرة والعمارات الشاهقات وأصغيت إلى كلماتهم ولم أر إنسانا واحدا يترحم للميت!، بل الذنب كله على الميت الغائب، تفكرت في أمر القوم حتى أقنعت نفسي بأنهم لو تصادمت سيارتان هل كانوا يفعلون أكثر من هذا ؟ لا على رأيي. أناس أم دمى؟ 

وفي حينها خسرت كلّ آمالي نحوهذا البلد، والتي كانت من قبل مكتوبة بطبشور الوهم ،على مساحة رمل عار تهب عليه الزوابع حتى كرهت الحياة ومن عليها ناهيك بمقدشو والبقاء فيها،”أفّ وتفّ ،وجورب خفّ” كما قيل .

وصف بسيط للمغتالة :

أما السيدة المحكومة عليها بالإعدام على حين غرة منها فهي بنت علي ورسمي المساهمة الكبيرة في بناء صرح الأدب الصومالي بأنواع بحورها الصوتية الفتانة ،وكنت في سني المراهقة زمان أتابع أغنياتها وزمان كان الشعب يلقي اهتمامه لألحانها الشيّقة ، وكانت هي تكشف عن نسخ جمال،وتستر على أخر،لا طلبا للتزين بل تبعا لدورة العصر، مثلما كانت البنات الصوماليات ، ولا أحسب أنني غلوت بوصفي إن قلت :إنها كانت تغالب الأقمار أو هي آية من جمال نزلت لتقتدي بها الشمس ولم تكن تدري في حين نسجها لشعبها الألحان المثالية وفي حين تلويحها بديها الرخوتين ولبتها الشبيهة بنهر اللبن لتميت عنهم جراثيم البطالة وليملؤوا ذاكرتهم أعشاب وجهها الخصب الممتع ـ لم تكن تدري ما تخبئ لها الأقدار من ظلم كهذا الظلم ، والظلم ظلمات يوم القيامة . 

قارئي الكريم لا أحب أن أستبدّ برأيي ، وربما يرى بعض الناس غير ما أرى أنا ، لذا فليكن الأمر قابلا للنقاش ،هذا في صدد  حديثنا عن تزكية المرحومة ونفيها عن التعرّي والسفور . أما ما يتعلق بالظلم الذي أرتكب في حقها فهذ مسلم لا نقاش فيه ولا مراء .    

 كتب في صدري عنوانا فسكت : (٣-٤) 

حسبك أنّك وقفت على جلية الأمر وأنّ القراء ة هذه جاءت بمثابة ثورة عارمة على وحي الكارثة ، إذن فليأت التعبير مضطربا ،والكلمات نافرة مزمجرة وفي الركاكة الأعجمية، لآنّ الثورات كعادتها لن تجيء الاّ لتحطيم العوام . . . ذاك شيئ، والشيئ الثاني:. كنت أركب ذات يوم سيارة أجرة على الشارع المهم (مكة الكرمة) فدارت بيني وبين قائدها كلمات حول القضية كما هي عادة الشارع ،والقضية كانت حديث الساعة، ومن خلال حديثه جاء ت كلمة عجبت من تعبيره؛ لاأدري أهي ندت عن ذاكرته أم جاءت عن طريق القصد ، فتلقفتها لا اطمئنانا إلى صدقها بل لغرابتها ولمخالفتها عن الواقع!، فأثبتها خاتمة لرسالتي، كما جعلته هو مرجع الضمير في العنوان “كتب في صدري عنوانا فسكت”. فالعامي الفج في أحيان يصنع المعجزات بعفويته وسذاجته فليعلم !.

وبعدها وقبل مقتل الشيخ آدم محمد ديرحاولت كتابة المقالة 

على علم بأنني لا أحلّق في جو البلاغة ،مثل السائق زميلي،لا أقصد البلاغة الأدبية بل البلاغة العابرة عن الشعور بصدق  وهذه هي التي حملتني عند تسجيل الورقة في أول الأمر على خجل وارتباك مخافة أن أكون ضحية غروري وتهوري ، لأنّ الذي يركب في بحر مثل هذا الذي أركبه لابد له من تجربة في النقد والتحليل وأنا الذي أصابتني خمول وركود؛ وذاك لأني تركتها من قبل لأ شغال واجهتني ، فاستعصت عليّ الكتابة فدعوتها فلم تجبني وتمادت 

في العقّ وتماديت أنا في تضرعي وخنوعي ، فلساني فقد العديد من مهاراته الحوارية وقلمي لا يسترسل في العطاء ولن يجمل التعبير إلاّ إذا وضعت الحرف مكانه وذلك سر جمال اللغات كلها ، فكيف أكون محللا بارعا وأنا الذي “ضيعت اللبن في الصيف ” .

 أعيدك إلى الوراء لأختم كلامي بكلمة سائق السيارة التي صارت مني في موقع الماء البارد من قلب الظمآن ( سألته : عن إجرآت الحكومة على مثل هذا الحكم والسؤال وإن كان على أسلوب المحاورة إلاّ أنني كنت أقصده لأعبر به عن انفعالاتي الخاصة على طرية كلمة ندت من حافظتي، فقال إجابة عليها :”وهل مشكلة غير الحكومة في البلد ؟” وأكثر اللوم وأطال . وألم أزل أجرّها، ألوكها، وأرددها، فنظرت في المجتمع فإذا كلهم موافقون له!، ولكن نتساءل هل يمكن أن تكون حكومة ما المشكلة الوحيدة في بلدها؟ بل هل يتصور أن تكون هي أكبر الفساد في البلد؟ الجواب: لا. ولكن عند ما مرضت القلوب واعوجّت الأفكار لاشك أنّ النتيجة تأتي . . .  

وكنت في بداية زيارتي بمقدشو طيب القلب ميمون الطائر أجيب السؤال بلا طلب ، وأوافق الرأي بلا بديل لأنني ما حملت عداوة للحقّ ، ولم يجر بيني والحسن أي شحناء كنت أتساءل مرارا : لماذا  يغلظ الناس القول بعضهم لبعض ؟ وإن كان رفق في قلب أحد منهم فكالعشق في قلب العذراء ،  أي أنّه لا يحب إظهاره . وما معنى المساومة الدائمة على كل مبيع ؟ وإن كان من أبسط الأشياء: في أجرة النقل في الشاي وفي كل تافه أليس هناك قيمة شيئما متعارف عليها؟ زد . . . فكلّ أحد في سبيل الدفاع عن نقسه، في لدد وخصومة ، في عقد وحلّ ، . هذا أمر لا ندري أسبابه ولابدّ أن تأتي ثماره يانعة في أيام .  

وأنا لست الكاتب الول في نقد الأعمال الشيطانية في مقدشو فكيف أطمع في أقل النجاح ، بله التفوق في إعداد كتابة تكون لها التأثيرات الجميلة ؟ كيف أأثر في شعب لكل أحد منهم كيس مملوء بقطع غيار معكوسة تُعكس الكلم ؟ هذا ما جربته أنا ، كلهم جهابذة مهرة ولكن فيم ؟ في تشويه النظام والأمور الإدارية وفي تشويش الكلم بصفة عامة وفيما إذا كان لها الطابع الحكومي بصفة خاصة ، لم يكن طمعي في تحسينهم  إلاّ كطمع الجهلة  بالأموات وأسماء الصالحين وكما ينتظر المتصوفون الرجل الصالح (الخضر) . 

وايم الله، بأن الذي يطمع إيجاد حلّ لشعب مثل الصومال لَمثل الذي يسعى في صلح بين موسى وفرعون! أو كمن انتظر نبيا بعد محمد! أوينفخ في غير الضرم ؟ لأن التربيات الإبليسة نجحت  فيهم ، وآتت أكلها أضعافا مضاعفة ولا تنظر إلا إفناءهم عن آخرهم . 

كتب في صدري عنوانا فسكت : (٤-٤)

إنني أشفق أن يجرّني هذا القلم إلى القدر المحتوم وإلى آخر الأجل؛فالبوح في الصومال جرم لا يغتفر ؛والجريئ من أسرع الخلق إلى الموت وأراى زماننا هذا هو المعني المقصود إلى الحكمة الذائعة “من سكت نجا” ولكن أعلم مع ذلك أنّ الصمت على الباطل موت آخر لا يقلّ عن القتل المتبادر إلى الذهن ، وأن صاحيه هو الشيطان الأخرس لكما قيل . 

فالصمت في غير محلّه من أنسب الأفكار إلى إبليس اللعين! وأسرع  للإعتداء وازهاق الأمم والأرواح من السيل الجارف  إذن لا تصغ أيها قارئي الكريم لاتصغ لهراء الذين يريدون تمدد زمن الهرج في أرض الصومال، أرضنا الحبيب ،إنّما هي هلوسة عاشق أصابته الجنّة أو كاد بل شبق فاسق ، لأنهم فتحوا أعينهم على الشغر والهرج؛ فعدموا التقويم الصحيح  وعدموا دقة الفهم وفشى عليهم العمى،فهم أشبه بالثعاليب والثعابين منهم بالناس،إذ لا يبرد غليلهم إلا دماء المسلمين العزل ، فبحثوا عن آلف طريق لمصّ الدماء فلم يجدوا بديلا مناسبا من الفوضى والبقاء على الفوضى، ولا أراهم إلا تمنّعت عليهم الأخلاق السويّة وفشلت فيهم المحاولات  الإصلاحية كلها حتى استحالوا إلى ما هم عليه ثمّ . . . .لا أجد لنا ولهم مثلا إلاّ حديث الرسول الذي في قمة التوصيف والتمثيل “إنّ قوما ركبوا في سفينة . . .” تركناهم فنقروا الخشب فهلكوا وهلكنا .

ثمّ اتكلوا على الكلمات ولها صبغة دين ، أو أنها خلابة برّاقة، لا علاقة لها بالدين من قريب ولا من بعيد ،طلبا للتخفي عن عيون الناس “يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله”.وكلّ هذا بعدما لم تجد الإنسانية إلى قلوبهم سبيلا، ولم يزحف عليهم التمدن، فطلبوا سبيل العيش بطرق معوجّة متعرجة وعرة،فأصبح غذاؤهمالسلاح الموجه إلى الشعب . . . حتى تراكمت عليهم ما ترى من الآثام فاستحلوا دم البريئ ناهيك عِرْضه وماله سياسة إجرامية خطط لهم شيطانهم . . .، قارئي لا عليك، فإن الذل ينسي الألم “ما لجرح بميت إيلام”. كما قيل .  

أما نحن فواجبنا الوقوف أمام التحديات الباطلة بقدر المستطاع وعلى الله التكلان وهو الموفق للصواب وإلاّ فليحفر كلّ منا لنفسه قبرا نتوارى به .

عبدالله الشيخ محمد آل الجراد

أستاذ في جامعة كسمايو وخريج جامعة العلوم والتكنولوجيا في اليمن. وهو من أبناء الحلقات العلمية في المساجد والمدارس الحكومية ، وحصل على الشهادة الثانوية من مدرسة الشيخ صوفي بمقديشو .
زر الذهاب إلى الأعلى