المجلس العسكري الإنتقالي في السودان بين مطرقة المعتصمين وسندان الإتحاد الإفريقي

المجلس العسكري في السودان بين مطرقة المعتصمين وسندان الإتحاد الإفريقي عليه pdf

إن المشهد السوداني الذي يمضي قدماً بوتيرة سريعة فيما يبدو بدء بسقوط الرئيس السوداني عمر البشير عقب مظاهرات شعبية وانتفاضات جماهيرية عارمة، واعتصامات مليونية نزلت الى كل شوارع الخرطوم ضده، احتجاجا على تردي الأوضاع المعيشية والاقتصادية، والتضييق على الحريات العامة، ثم دخل العسكر من البوابة الخلفية مرة أخرى ليعتلوا على العرش ويعلنوا المجلس العسكري الإنتقالي برئاسة وزير الدفاع اللواء عوض بن عوف، لحكم البلاد لمدة سنتين قادمتين، وتعطيل العمل بالدستور، وإعلان حالة الطوارئ في البلاد، وحظر التجوال لمدة شهر، وحل المجلس الوطني ومجلس الولايات، وحكومات الولايات ومجالسها التشريعية، وكلَّفت الولاة ولجان الأمن بمهامها واستمرار العمل الطبيعي بالسلطة القاضية ومكوناتها، والمحكمة الدستورية والنيابة العامة، الاّ أن المعتصمين واجهوا بالرفض على هذا المجلس وقراراته، وبالذات بن عوف الذي كان من زمرة عمر البشير، فسقط هو الآخر أيضاً بضغط الشارع عليه، ثم جاء عسكري ثالث وهو الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان، الذي يبدو أن المعتصمين أبدوا له بنوع من القبول الحذر أو بالأحرى المصاحب بحزمة من الشروط، التي لا زالت لمشاورات حولها تجري بين المعتصمين من جهة والمجلس العسكري من جهة أخرى، والظاهر أن اليد العليا للمعتصمين في المفاوضات لأنهم يراوحون مكانهم أمام القيادة العامة للجيش حتى تتحقق أهدافهم.

وفي هذه الأثناء التي يواجه المجلس العسكري الإنتقالي ضغوطا شعبية هائلة من الداخل تأتي ضربة أخرى من الخارج لا تقل ثقلاً عن الوطأة الداخلية إن لم  تكن أقوى منها، وبالتحديد من قبل الإتحاد الإفريقي الذي يمثل أكبر مؤسسة قارية تنطوي تحتوى تحتها كل الدول الإفريقية، والذي له سلطة فوق الدولة الوطنية، بواسطة أحد أجهزته وهو “مجلس السلم والأمن” التابع له، والذي عقد في 15/4/2019م لقاءً استثنائياً مخصصا لبحث تطورات الأوضاع في السودان وذلك في مقر المنظمة بأديس أبابا، استعرض  المجلس خلاله الشأن السوداني برمته وجرى نقاش طويل في الجلسة بين الوفد السوداني من جهة ومجلس السلم والأمن الإفريقي من جهة أخرى، حيث حاول الفريق الركن جلال الدين الشيخ الطيب المبعوث الخاص من المجلس العسكري الإنتقالي في السودان الى أثيوبيا لاطلاع القيادة الإثيوبية والاتحاد الأفريقي ومنظمة الإيجاد، على تطورات الأوضاع في البلاد بعد الإطاحة بالرئيس عمر البشير، إقناع الحاضرين بأنّ القوات المسلحة السودانية لم تأت الى السلطة الاّ استجابة لرغبات الشعب في التغيير وتجسيدا لتطلعات كل فئاته نحو حياة أفضل، و أنّ ما قامت به القوات السودانية لا يُعد انقلابا عسكريا أو طمعا في سلطة، كما أكد الفريق التزام المجلس العسكري بوعده بتسليم السلطة للشعب، الاّ أن مجلس السلم والأمن الإفريقي أصرّ على موقفه المتشدد إءاء العسكري رافضا الإنصياع الى هذه التبريرات، وأدان بشدة استحواذ الجيش السوداني على السلطة في البلاد، كما أصدر بيانا قال فيه: “أن المجلس يطالب الجيش السوداني بالتنحي، وتسليم السلطة لسلطة انتقالية مدنية تقودها القوى السياسية، بما يتوافق مع رغبة الشعب، والنصوص الدستورية، خلال 15 يوما، من تاريخ تبني هذا البيان، وإلا سيبدأ المجلس تلقائيا في تبنى المادة 7 من البروتوكول، وتحديدا تعليق مشاركة السودان في جميع أنشطة الاتحاد الإفريقي، حتى استعادة النظام الدستوري”.  كما حث البيان الجيش السوداني على “الامتناع عن إصدار أي بيانات من شأنها أن تعقد الموقف في البلاد، وتؤثر على الأمن الإقليمي والاستقرار”.

ويبدو أن هذا القرار هو من أقوى القرارات التي أخذها الإتحاد الإفريقي في تاريخه ضد أية دولة افريقية فيما أعلم، مما يدل على أن الإتحاد الإفريقي جادٌ في تنفيذ بنود البروتوكول الخاص لمكافحة الإنقلابات العسكرية في القارة، كما يشير هذا الموقف الى الدرجة المتقدمة التي وصل اليها الإتحاد الإفريقي من السيطرة على الدول الإفريقية، وهذا الإنجاز يسجل لمجلس السلم والأمن الإفريقي.

ورغم أني من المؤيدين بقوة لبوروتوكول الإتحادا الإفريقي تجاه الإنقلابات العسكرية في افريقيا القاضي بعدم اعتراف الإنقلابيين بل وفرض عقوبات عليهم، الاّ أن لديّ تخوفات من عدم إمكانية تنفيذ هذا القرار الجريئ  في السودان، وذلك نظراً لإعتبارات قانونية، وأخرى ميدانية، إضافة الى أشكالية في تحديد الأولوية للشعب السوداني في هذه المرحلة.

الإعتبار الأول: السند القانوني

لم يذكر مجلس السلم والأمن الإفريقي في بيانه السند القانوني الذي اعتمد عليه في اصدار قراره الراهن تجاه المجلس العسكري الإنتقالي في السودان، فيما إذا كان يعتبر أن ما حصل في السودان هو انقلاب عسكري أم انتفاضة شعبية، في حين أننا نجد أن الطرف السوداني لا يعتبر ما حصل انقلابا  عسكريا، وإنما يعتبره انتفاضة شعبية انحاز اليها الجيش، كما صرح بذلك الفريق الركن جلال الدين الشيخ الطيب أمس أمام المجلس.

وإذا نظرنا خارطة التغيير فإننا نجد أن هناك تداخلا واضحا في الحالة السودانية بين تغيير نظام الحكم بواسطة الحراك الجماهيري الذي كان السبب الرئيسي لسقوط عمر البشير ثم بن عوف من بعده، وبين وجود مجموعة من القيادات العليا للقوات المسلحة قامت بتشكيل مجلس عسكري أزاح بعمر البشير ثم نصب بنفسه وتولى زمام الحكم في البلاد لفترة انتقالية محددة، ففي هذا التغيير نسبة عسكرية كبرة، وفي المقابل هناك نسبة شعبية أكبر. ولقد أدى وجود هذا التداخل وسكوت الإتحاد عن السند القانوني للقرار الى ظهور لغط كبير في الأوساط السياسية حول مصداقية قرار المجلس، الاّ أن قرار المجلس يتطابق مع نظام العقوبات الذي يفرض الإتحاد الإفريقي عادة على الدولة التي تقوم بتغير الحكم في بلادها بطريقة غير دستورية، حيث ينص النظام الأساسي لمجلس السلم والأمن الإفريقي في مادته الثلاثين “أنه لا يسمح للحكومات التي تصل إلى السلطـة بطـرق غيــر دستوريــة بالمشاركة في أشطة الإتحاد”.

إذاً صدور قرار بهذا المستوى مع وجود اشكالية قوية على سنده يجعل قرار المجلس محل نقد وشك في شرعيته من الأساس، ويقلل أهميته.

الإعتبار الثاني: إمكانية تطبيق القرارا وتنفيذه في هذه المدة الوجيزة؟

بعرف كل من لديه المام بسيط في أبجديات علم الإدراة أنه يُشترط لتنفيذ أي قرار أن يكون قابلا للتطبيق زمنيا وعمليا، حتى وإن كان يخص شخضا واحدا، فما بالك إذا كان الأمر يخص بلدا بمثل حجم السودان المترامي الأطراف، وتعيش فيه عدة قوميات مختلفة اللغات والأعراق، ولديه قلاقل سياسية وأمنية مزمنة مثل حالة دارفور وغيرها، كما أن إعتصامات مليونية تجتاح أنحاء العاصمة الخرطوم طولاً وعرضاً، إضافة الى وجود دولة عميقة ونظام فاسد حكم البلاد ثلاثون عاما، مما يجعل أي مراقب منصف أنه يشك في إمكانية تنفيذ هذا القرار في خمسة عشر يوماً، وهذا ما لا يقوله حتى رجل عادي فضلا عن مؤسسة ذات تاريخ عريق مثل “مجلس السلم والأمن الإفريقي” الذي تمتلك خبراء إداريين وأجهزة  متخصصة، ولقد قيل قديماً “إذا أردت أن تُطاع فأمر بما يطاق”.

الإعتبار الثالث: تحديد نوعية الأولوية

إن كثيرا من المعنيين في الشأن السودني يتساءلون هل الأولوية في السودان خلال الأسبوعين القادمين تتمثل في نقل السلطة الى المدنيين أم أن هناك ترتيبات أخرى يجب أن تسبق عليها؟

لاشك أن كل ما تعاني به السودان اليوم من ويلات ومصائب سياسية واقتصاد وعسكرية هو نتيجة الحكم العسكري الذي كان جاثياً على صدور الناس حقبة طويلة من الزمن، وإبعاد العسكريين عن الحكم المدني مطلب داخلي وخارجي، ولكن هل الأولوية خلال الأسبوعين القادمين هو استتباب الأمن والإستقرار في العاصمة، وتهدئة الشارع، وانهاء الإعتصامات، وإعادة الأمور الى مجاريها، وتطبيع الحياة، هو الأولى والأهم أم نقل السلطة الى المدنيين في جو تغيب عنه كل هذه الترتيبات اللازمة لذلك؟

أكاد أزعم بأن أولوية السودان خلال خمسة عشر يوما القادمة هي تهدئة الأوضاع في البلد، وفتح الحوار والمشاورات السياسية بين القوى السياسية المدنية والمجلس العسكري كما تجري حالياً، وذلك لوضع الترتيبات اللازمة لنقل السلطة الى حكومة مدنية، بأقرب فرصة ممكنة، ولا أظن أن هذه الفترة ستقل عن شهرين، اذا ما أردنا أن نطبخ العملية بنار هادئة تؤدي في النهاية الى نجاح عملية التغيير كما يريده أهل السودان.

وعليه فالمطلوب من مجلس السلام والأمن الإفريقي أن يراجع رؤيته لتحديد الأولوية في السودان في هذه المرحلة الحرجة.

الإعتبار الثالث: موقف المجلس العسكري من القرار.

جاء الجواب سريعاً من المجلس العسكري بلسان الفريق جلال الدين الشيخ الطيب – نائب جهاز الأمن والمخابرات الوطني وعضو المجلس العسكري الانتقالي في السودان- في مؤتمر صحفي عقده بسفارة بلاده في إثيوبيا، قائلا: “ن المجلس يحترم مهلة الاتحاد الأفريقي للسودان لتسليم السلطة المدنيين، وإنه في نيته تسليم السلطة للمدنيين، لكن بما يناسب الوضع وبعد الحوارات، وأن المجلس ليس في نيته أبدا أن يتمسك بالسلطة، بل هو يعد للمرحلة الانتقالية والحفاظ على الأمن”. وهذا الموقف كان متوقعا من المجلس العسكري الإنتقالي كنتيجة طبيعية لهذا القرارا المستعجل الذي لم يوضح الإتحاد فيه سنده القانوني، ولم يراع إمكانية تطبيقه على أرض الواقع في مدة وجيزة جدا، إضافة الى عدم تحديد أولوية المرحلة بشكل دقيق.

الخلاصة:

إن هذ القرار الذي اعترى فيه شك وضبابية في مرجعيته القانونية، وعليه استفهام كبير حول إمكانية تطبيقه في هذ الفترة الوجيزة، إضافة الى كونه يعاني اشكالية في تحديد الأولوية المناسبة للشعب السوداني في هذه المرحلة، ولم يؤخذ فيه بعين الإعتبار موقف العسكريين الذين حكموا البلا لمدة ثلاثين عاما مضت، إن قرارا كهذا الذي يحمل في طياته  كل هذه المعضلات حريٌّ به أن لا ينجح، بل وأكاد أجزم أنه سيكون في مهب الريح.

ووصيتي لمجلس السلم والأمن الإفريقي الموقر أن يحسب خطواته ألف حساب قبل الإقدام على إصدار قرارات كبيرة كهذه التي تؤثر مصير الأمم والشعوب والدول والاّ سيكون محل نقد وسخرية أمام المراقبين.

ابراهيم محمد حسين – خبير في شؤون الإتحاد الإفريقي

Ibrahimdhere1964@gmail.com

إبراهيم محمد حسين

خبير في شؤون الإتحاد الإفريقي
زر الذهاب إلى الأعلى