يمنيو الصومال رحلة المتن والهامش في مغامرة ‘الحمودي’

يتبدّى اليمنيّ عمر عبدالعزيز في عمله “الحمّودي” متّكئاً على سيرة عائليّة، يتداخل فيها تاريخ الآباء والأجداد وسيرتهم مع تاريخ البلاد والمتغيّرات التي تعرّضت لها طيلة عقود.

يعتمد الكاتب التكثيف في عمله الذي يفرده ليمنيّي الصومال الذين يحضرون كمركز اهتمام الكاتب في روايته القصيرة، والتي تظهر كبحث في عتبات التغيير ومفارقاتها الكثيرة، وذلك من خلال اقتفاء سيرة بطله الحمّودي، الذي يبرز كحامل شعلة الاكتشاف والناهض بدور الثائر في حلّه وترحاله.

قصّة مهاجر على درب الحنين والأنين، هو العنوان الفرعيّ للعمل السرديّ غير المحدّد التجنيس. والمهاجر هو الحمّودي كما هو بيّن، لكنّه مثال لشريحة من اليمنيّين الذين ظلّوا يهربون من قمع فيجدون أنفسهم فرائس قمع آخر، ينطلقون في الآفاق بحثاً عن ذواتهم، راغبين في تحقيق آمالهم وأمنياتهم، يكون الاغتراب ظلّهم ورفيق ترحالهم الذي لا يكلّ من التجدّد والمتابعة.

يتنقّل عبدالعزيز بين العوالم؛ عالم القرية ببساطته ودعته، عالم المدينة بتناقضاته، عالم الاستعمار وذهنيّة المستعمر في تعاطيه مع مستعمريه، ومحاولة الهيمنة الثقافية عليهم، وفرض اللغة والثقافة وتحويلهما إلى أسلوب حياة معاصر. وبالموازاة مع تلك العوالم يرصد المتغيّرات التي تواكب الانتقال من عالم إلى آخر، ومرارة الهجر والفقد والانتظار، وجريمة النفي والقمع والحرب.

حارة العرب

يحضر لدى الكاتب قلب للعلاقة بين الهامش والمتن، فالحمّودي الذي يكون على هامش المتغيّرات الكبرى وفي قلب المعارك، يصبح المتن، لتكون الرواية روايته، والقادة والمستعمرون دائرين في فلكه، يختبرهم ويتحدّث عنهم، يحلّل سلوكيّاتهم ونفسيّاتهم، يبدي آراءه فيما كان وأسبابه، وبذلك يعيد الاعتبار لتلك الأعداد التي قضت في حروب عبثيّة مجنونة.

ينطلق الكاتب من حارة العرب في مقديشو، الحارة التي يعود إليها ويذكر أنّها كانت تضمّ مزيجاً من الصوماليين واليمنيين، وفيها تستقيم أحوال المهاجرين وأبناء المهاجرين اليمنيين على قاعدة ثقافيّة وإنسانية بسيطة، حيث التماهي مع الطبيعة، وتشابه الأحوال في الأفراح والأتراح.

يصف أحوال تلك الحارة أنّه لم تكن هناك أولويات خارج نطاق التداعي الحُرّ، ولم يعرف ساكنوها طعم الماء المنقول على قوارير صناعية، لأنهم كانوا يشربونه مباشرة من الآبار المنتشرة هنا وهناك. يتساوون فيها مع عطش الدواب. ويصف كذلك لقطات تجمع بين السخرية والمرارة بواقعيّة، كذكره أنّه عندما جاء الإيطاليون بالقوارير الأولى الصغيرة، تحولت مفاتيح تلك القوارير إلى أفضل لعبة ذهنية للأطفال وكانت ترتقي في قيمتها لمصاف العملة المعدنية الاعتيادية، تماماً كما كان الحال مع قواقع البحر الصغيرة.

كما يذكر أنّ تلك الحارة كانت تختصّ بمزايا خاصّة بها، يقول على لسان سارده المتحدّث بضمير الأنا “لم نكن نعرف الأسماء بوصفها ترميزاً للنوع، بل باعتبارها صداقة دائمة مع الأنواع الحيوانية والنباتية. لا فرق هنا بين الطيور والفراشات.. وبين الخيول والجمال، فالكل ينتمي للمعاني الفريدة القادمة من معجزات البهاليل وأحوالهم المدهشة”.

يسرد الكاتب بنوع من التوثيق التاريخيّ أن الصومال شهدت تجربة برلمانية فريدة بعيد مغادرة الإيطاليين

 البهلول المعاصر

يولي الكاتب عناية لشخصيّة البهلول دمدم التي تنسج حوله الأساطير، تارة يقال إنّه سليل لملوك الجنّ قادم من أعماق الأساطير، وتارة أخرى ينسب إلى أصول غرائبية، ثمّ تثار الأقاويل عن أمّه.. وهكذا يكون البهلول مطلق الخيال نحو الأقاصي.

ويجد أنّ دمدم مختلف عن غيره من البهاليل، أو يكون جامعاً لسجاياهم وغرائبهم. يلبّس الكثير من التلفيق والاختلاق، وكأنّه شمّاعة للخيال أو الأخطاء، من ذلك مثلاً ما يتداوله الناس من أنّ العطاس القادم من أبخرة دمدم، “يقي الدواب من الآفات والأمراض، ويُخرج الأفاعي من جحورها، ويحاصر الصراصير في أوكارها، ويميت البعوض في برك مياهها، ويسقط القنافذ مع الأمطار المسائية، ولكنهم لم يكونوا يدركون أن تلك الأمطار خرَّبت أوكار القنافذ، وأنها خرجت إلى العراء بعد أن أصبحت دون مأوى”.

يشكّل البهلول مع سيّدة الصمت الكبير طرفي أسطورة الحارة الشعبيّة. السيّدة التي تتكفّل به وترعاه، تصمت فصلاً وتنطق آخر. تكون لها طقوسها في الصمت وفي النطق. وتفرض على أهل الحارة بسلوكيّاتها الغريبة احترام طقوسها والحذر منها في الوقت نفسه. قيل إن دمدم وسيدة الصمت الكبير يتبادلان أدوار الإنس والجن، فإذا كانت سيدة الصمت إنسانة تترحّل في مفازة الغيب لكائنات النار والبُخار، فهو جِنِّي يعيش بين البشر رغماً عنه، ولا يجد فرصة للعودة إلى مرابع أهله وذويه.

الحارة تكون مركز الكتابة وملتقى النقائض، لديها أبواب ومسارب وعتبات وعتمات وخفايا، يدمن الناس فيها البحث عن المستحيل، “حتى إن الأحاجي المتوارثة فيهم تلخَّص وتفي بكيفية الإمساك بالماء وشرب الهواء، وتحويل التراب إلى تبر، وطبخ الطعام دون نار، واصطياد العصافير بالاستدعاء الصوتي فحسب، وإخراج الثعابين من أوكارها بالغناء”.

 الحمّودي حامل شعلة الاكتشاف والناهض بدور الثائر في حلّه وترحاله

 أريخ وأرشفة

يحضر لدى عمر عبدالعزيز اهتمام خاص بالتأريخ، وكأنّ الكاتب يؤرّخ الأحداث التي عصفت بالصومال من خلال رصد المتغيرات الاجتماعية في كلّ مرحلة، وسرد المفارقات والمحطّات الهامّة التي تتسبّب بها أو تدفع إليها. وفي كلّ مرّة يكون لديه حامل لتلك الرؤى، سواء بالتعبير أو التذكير، وينقل من خلالها صوراً عن الصومال الذي بلغ ما بلغه من احتراب وتصارع بين أبنائه، وما وصل إليه من خراب متفاقم معمّم وتفتّت رهيب يطال كلّ بناه الاجتماعية والاقتصادية والسياسيّة والقبلية.

 في الحرب العالمية الثانية

وجد اليمنيون أنفسهم منخرطين في قتال لا يعرفون معناه ولا هدفه، على جبهتي ليبيا وإثيوبيا، وكان من نصيب الحمّودي ورفيقه اليمني فاضل أن يكونا في الجبهة الإثيوبية الصومالية التي تواجهت فيها العسكريتان البريطانية والإيطالية، وكان فاضل الحكيمي مخنوقاً بإحساس غامض عندما قال لزميله الحمودي: إذا حدث لي شيء في هذه الحرب فعليك بالعناية بزوجتي وأطفالي.

في الحرب الإيطالية البريطانية على الأراضي الإثيوبية الصومالية، كان الحمّودي مُناجزاً في المعمعة حاضراً في تفاصيل التراجيديا.. منصرفاً لمصيره الغامض. ومُدججاً بكل أنواع الأسلحة والملابس والجروح معاً. 

في سياق مواصلة الحديث عن سيرة الحمّودي، يتحوّل الحمّودي من بطل للرواية وشخصيّة محوريّة فيها إلى راو لبعض أحداثها. كان بوسع الحمّودي سرد قصة بكاملها أمام كل علامة رافقته منذ الإصابات الأولى فالثانية والثالثة، وكان يروي تلك القصص الواقعية حدَّ الخرافة.. المقرونة بالحروب والمتاهات.

يذكّر الكاتب بمفترق الطرق الذي وجد يمنيّو الصومال أنفسهم في مواجهته حين قرر الإيطاليون مغادرة المكان، أبلغوا اليمنيين الجنود بالخيارات: “السفر معهم إلى روما، أو البقاء في الصومال بإقامات دائمة، أو العودة بهم إلى اليمن”. كان الخيار الجبري للحمّودي، البقاء في مقديشيو مع زوجته وأبنائه وأبناء صديقه المفقود فاضل الحكيمي.

 ذروة المتاهة

يسرد الكاتب بنوع من التوثيق التاريخيّ أنّ الصومال شهدت تجربة برلمانية فريدة بعيد مغادرة الإيطاليين وكان مبنى البرلمان الأحمر الفريد بالياجور الأحمر معْلماً شاهداً على المنصّة السياسية والإدارية التي تركها الإيطاليون للصوماليين، وبهذه اللعبة الرشيقة سارت الأمور على عهد الرئيس الأول المنتخب آدم عبدالله عثمان. وعهد الرئيس المغدور اغتيالاً عبدالرشيد علي، المُلقَّب “شر مأركي”، وتعني بالصومالية “المصون من الشرّ”.

ويذكر كذلك أنّ الشرّ كان له بالمرصاد، وكيف بعد اغتياله الغامض، قرّرت كوكبة الجنرالات القائمين على أمر الجيش الشروع في انقلاب عسكري، تحت مسمّى “الثورة”، واستتبعه تشكيل المجلس الأعلى لقيادة الثورة برئاسة كبير الجنرالات محمد سياد بري، ولم تنقض أيام قليلة حتى أطلّ الخلاف القبلي الأوليغاركي برأسه، لتبدأ متوالية الإعدامات والاعتقالات، وصولاً إلى حروب الشمال والأوجادين.

يكمل الكاتب سرده لتفاصيل تلك الأيّام بقوله “جاءت ذروة المتاهة في الاندفاعة الشبابية العفوية التي حاصرت القصر الجمهوري، ووضعت الرئيس سياد بري أمام خيارين لا ثالث لهما، فإما الصمود ضد الزحف الشعبي العاتي، وإما المغادرة التكتيكية بحسب نصيحة مستشاريه الأقربين، فكان خياره المغادرة إلى قريته في منطقة “بلدوغلي”، لكنه كان شديد الحرص على ثلاثة إجراءات: أولها فتح مخازن السلاح للمتحاربين في مُقبل الأيام قائلاً لأصحابه: افتحوا كل مخازن السلاح لأنهم سيتقاتلون عشرين عاماً. وقد صدقت نبوءته القادمة من احتساب دقيق للحال والمآل”.

ويحكي كيف أخذ معه الختم الرئاسيّ والكرسيّ الرئاسيّ والطائرة الرئاسيّة. وكيف ظلّ الجنرال من تلك الجلسة الرومانسية حدَّ الوهم، يراقب مصائر بلاده، ويتتبّع أخبار قتلاه، ودمار عاصمته، ويكون الديكتاتور الذي قرّر أن يغرق في أناه، ومن بعده الطوفان.

يكتب عمر عبدالعزيز واقع إدخال الجنرال سياد الصومال في مجاهيل الحرب الأهلية المستديمة، ويذكر كيف كان بطله الحمّودي شاهداً على تلك الحرب الجهنمية. “الحمّودي الذي جاء مع العسكرية الإيطالية من عدن، سيعود إلى عدن، وسيعيد تكرار تجربة الإبحار بعد ستين عاماً من الحنين والأنين، وفي طريقه البحري عبر خليج عدن ستعود ذاكرته إلى ذات المشاهد الأولى التي تعلم منها معنى دوران الأرض. وحينها سيعرف ما لا يُعوَّل عليه في هذا الوجود..”.

صحيفة العرب

زر الذهاب إلى الأعلى