سياسيون صوماليون في قعر الفساد الحكومي

الكاتب الصومالي بشير غوث 

bangiga dhexe

صفقات مشبوهة تسهم في إغراق الصومال اقتصاديا كان أغلبها يمرر عبر البنك المركزي الذي أصبح بؤرة للفساد المالي.

عينت ولأول مرة في الصومال امرأة كمحافظة للبنك المركزي، وهو منصب حساس في بلد يرزح تحت معاناة فقر وعدم استقرار سياسي في ظل حكومة مركزية لم تستطع إلى الآن النهوض ببلد دمره الفقر وإرهاب الجماعات الإسلامية المتطرفة.

يسر أبرار محافظة البنك المركزي في الصومال خيرت الاستقالة من منصبها بعد أقل من شهرين، على خلفية ضغوط مورست عليها لإجبارها على تمرير صفقات مالية مشبوهة. ويربط مراقبون استقالة محافظة البنك المركزي بعمليات غير سليمة خاصة بعد تصريحات لمسؤولين من الأمم المتحدة بأن، البنك المركزي الصومالي أصبح “بؤرة للفساد المالي” للقادة السياسيين، ولقد خص الكاتب الصومالي بشير غوث “العرب” بمقالة تحليلية انطلقت من حادثة استقالة يسر أبرار لتسلط الضوء على واقع الفساد المالي والاقتصادي في الصومال وفي أفريقيا بأسرها. 

كنت دائماً أؤمن بأنه إذا كان لأفريقيا أن تغير سمعتها السيئة باعتبارها قلعة للسياسيين الفاسدين وملاذا للاسترزاق بالمساعدات الخارجية، فإنه لابد أن تكون المرأة الأفريقية هي التي تقود المسيرة ضد الفساد.

و هذا ما حدث بالفعل خلال الشهر الماضي عندما فاجأت امرأتان تتمتعان بشخصية قوية ونزاهة كبيرة وهما يُسر أبرار من الصومال و ثولي مادونسيلا من جنوب أفريقيا، المجتمع الذكوري الذي ينخر فيه الفساد بتعريته دون أي خوف.

عينت يُسر آدم أبرار، وهي مصرفية دولية تتمتع بثلاثة عقود من الخبرة في مجال الخدمات المصرفية، والتأمين، والاتصالات والاستشارات المالية، كأول إمراة تتولى منصب محافظ المصرف المركزي في الصومال في سبتمبر عام 2013، حينما تعهد المجتمع الدولي بمبلغ 2.4 مليار دولار من المساعدات لتمويل إعادة بناء البنية التحتية والهياكل المالية لهذه الدولة المنكوبة منذ أكثر من عقدين .

وكمصرفية محنكة فإن أبرار كانت تعرف جيدا المهمة التي تنتظرها، وهي ببساطة أن تقوم بإنشاء إطار تنظيمي شامل للنظام المالي في البلاد وأن تحول المصرف المركزي إلى مؤسسة خاضعة للمساءلة عن كل دولار يصل إلى خزائنها .

تحديات وتهديدات

ولكن ما لم تتوقعه هو أن تعيينها كان مكيدة من قبل الحكومة لكي تستغل سجلها الممتاز لخداع الدول المانحة وذلك باستخدام توقيعها لإضفاء الشرعية على المعاملات المالية المشبوهة التي تنوي تنفيذها.

يبدو أن خطة أبرار الرامية إلى تطهير النظام المالي قد أصبحت تحدياً فاضحاً لسلوك السياسيين الصوماليين الضارب في القدم والمبني على سرقة أنفسهم وإثرائها بالمساعدات الخارجية والإيرادات الضريبية في البلاد. وفور وصولها إلى مبنى المصرف أصبحت الأوامر والتهديدات تنهال عليها لإرغامها على توقيع صفقات مشبوهة.

ولم تُعطَ ما يكفي من الوقت لمراجعة المطالب واستكشاف إمكانية إيجاد أية ثغرات قانونية قد تسمح لها بأن تجد حلا وسطا ذا مصداقية. وكل محاولاتها لكسب تأييد الرئيس وتوعيته بالضرر الفادح الذي يمكن أن ينتج عن تمرير مثل هذه الصفقات، وما يمكن أن يسببه من شرخ لمصداقية الحكومة لم تجد آذاناً صاغية.

ولكن بدلا من استيعاب نصائح أبرار واستخلاص العبر من الجهود الحثيثة التي بذلتها لتسليط الضوء على ضرورة اتباع الأنظمة المالية السليمة، فإن بطانة السوء للرئيس الجاثمين في محراب الفساد الحكومي حاولوا بدورهم تغيير معتقدات السيدة أبرار وتدريبها على ممارسة الأعمال بالطريقة الصومالية وفصمها عما اعتبروه تمسكها وإيمانها العميق بالقيم الغربية. وقالت السيدة أبرار في كتاب الاستقالة الذي قدمته للرئيس: “إن الرسالة التي تلقيتها من أطراف متعددة هي أنني يجب أن أكون مرنة، وأنني لا أفهم الطريقة الصومالية وأنه لا يجب أن أعاند رغبات الرئيس، وأن لا أعرض أمني الشخصي للخطر نتيجة لذلك”.

ووفقا للمعلومات التي وصلتني، فإن الرئيس حسن الشيخ محمود نفسه قد اتهم أبرار في أحد لقاءاته معها بأنها تحاول أن تتصرف مثل الأميركيين.

وكما يقول المثل الصومالي “ليس هناك مكان في الجسم أعلى من الرأس”، فبدلاً من أن يترقى الرئيس إلى مستوى القيادة ويدعم السيدة أبرار في جهودها المخلصة لإعادة المصداقية والمساءلة إلى النظام المالي في البلاد والحفاظ على موارد الشعب الصومالي، اختار أن ينضم إلى الحملة المطالبة بإعادة التأهيل للسيدة أبرار وإرجاعها إلى الثقافة الأفريقية المتجذرة في الفساد، والطريقة الصومالية المبنية على قاعدة “دعني أسرق ولك نصيبك”.

بين المصالح الشخصية والوطنية

ومن المفارقة أن نرى عنصرا من الحقيقة في التعبير غير اللائق للرئيس، حيث أن هناك حقاً صراعا محتدما بين الرئيس محمود وأبرار في الثقافة والأهداف حيث كان هدف أبراروبخبرتها الواسعة في الشركات الغربية أن تطبق هذه المعايير الدولية لكي تجعل النظام المصرفي في البلاد مقبولاً لدى الدول المانحة وتمكين البلاد من تحقيق الانتعاش الاقتصادي.

وهذا ما ذكرته في كتاب استقالتها حيث قالت: “عندما قبلت أن أتولى هذه المسؤولية، فقد فعلت ذلك وأنا أفكر في مصلحة الشعب الصومالي. وكوني قد شغلت مناصب عليا في بعض من أكبر المؤسسات المالية في العالم، كنت أتطلع إلى فرصة تقديم خبراتي إلى وطني وذلك في إعادة بناء المصرف المركزي وتحسين حياة الشعب، حيث أن المصرف المركزي هو مفتاح التنمية الاقتصادية. ومما لا شك فيه، أن الانتعاش الاقتصادي أمر بالغ الأهمية للتنمية من المنظور المالي والأمني”.

ولكن يبدو أن الثقافة المؤسساتية لأبرار وأسلوبها المهني وأهدافها الوطنية قد بدت غريبة للرئيس محمود وبطانته الذين تدربوا على ثقافة المنظمات غير الحكومية المعتمدة على مفهوم الاقتصاد المبني على التأثير التنازلي، وإن كان ذلك في السياق الأفريقي، والذي وصفه العالم الاقتصادي الأميركي السابق جون كينيث غالبريث بأنه مفهوم ظهر خلال فترة الكساد الاقتصادي، وكان يسمى أيضا بـ”نظرية الحصان والعصفور” التي تعني : “إذا قمت بتوفير تغذية كافية من الشوفان للحصان، فإن بعضاً منها سيسقط حتماً في الطريق لتلتقطها العصافير” وهذا هو بالضبط ثقافة الساسة الأفارقة وعقليتهم، وخاصة النخبة السياسية الصومالية التي تمارس المبدأ الذي يقول “أنا أولاً، والفتات للآخرين.”

والغريب أنه حتى أولئك المتعلمين العائدين من الشتات والذين يعملون للرئيس كوزراء ومستشارين يندرجون ضمن هذه الفئة. وقد شرحت الدكتورة نعمة بوقورة والتي كتبت لي من نيويورك هذه الفكرة بشكل دقيق حيث قالت: “في الآونة الأخيرة، بدأت أقلق على التدافع الحالي على دية الدم الصومالي، فهل يمكن لهذه النخبة من الرجال من ذوي المؤهلات العالية ونظرائهم العائدين من الشتات الخوض في المعترك السياسي لسداد أقساط رهنهم العقاري، هل هؤلاء من سيقودوننا إلى دولة المستقبل؟ أو أنهم فقط شركاء في نهب ثروات الأمة لتحقيق مكاسب خاصة”.

استقالة أبرار

وهذا لم يغب عن أبرار حيث أنها أعربت عن ذلك بوضوح في كتاب الاستقالة الذي صاغته بدقة وعناية حيث أكدت أنها ليست قلقة على التهديدات الكثيرة التي تلقتها، ولكنها تشعرها بخيبة أمل في عدم تلقيها أي دعم من الرئيس، وقالت: “لست قلقة من التهديد الأمني ولكني أشعر بخيبة أمل حقا في أنني لم أتلق دعمكم وقيادتكم في هذا الشأن كي أتمكن من أداء واجباتي بشكل موضوعي”.

منذ استقالة أبرار لم يحصل الشعب الصومالي ولا المجتمع الدولي على تفسير مقبول من حكومة الرئيس محمود على الاتهامات الخطيرة التي جاءت في خطاب الاستقالة لأبرار غير عبارات من النفي تستحق الشفقة لكونها خالية من أية حقائق تبرئ ساحة الحكومة.

والجدير بالذكر أنه بعد إضاعة العديد من الفرص والتي أدت إلى أن تصبح الصومال مكانا خطيرا للتجارة والأمن الدوليين، قرر المجتمع الدولي إعطاء الرئيس محمود وحكومته فرصة أخرى بغض النظر عن الطريقة غير الشرعية والمليئة بالفساد التى اتخذها للمجيئ إلى السلطة. وبسبب وجهه الطفولي وابتسامته العريضة وأسلوبه الهادئ في الحديث فقد اكتسب الرئيس محمود درجة معينة من الثقة.

ولأجل الحنين القوي للشعب إلى إيجاد حكومة صومالية معترف بها دولياً، فقد تجاهل الجميع الأصوات التي طلعت في وقت مبكر من ولادة الحكومة مثل صوت الشاعر الساخر والأكاديمي الصومالي محمود سعيد توجانه، الذي وصف ابتسامة الرئيس بأنها مثل اختفاء الذئب في ثوب حمل وديع وذلك في مقابلة أجراها بعد وقت قصير من انتخاب الرئيس. نحن أيضا رفضنا الانتقادات الحادة التي وجهها الأساتذة أحمد سمتر وعلي جليد إلى الرئيس محمود، وذلك للميول السياسية المعروفة للرجلين.

ولا نعرف حتى الآن ما إذا كان المجتمع الدولي سيستجيب لجرس الإنذار الذي قرعته السيدة أبرار ولكن ما يبعث على الاطمئنان هو أن استقالتها قد هزت بالفعل ثقة المانحين في الحكومة الصومالية، كما جاء في تصريح نقلته وكالة رويترز عن دبلوماسي أوروبي كبير، حيث قال: “إن استقالة السيدة أبرار قد أيقظت الكثير من الناس وإن فكرة تقديم شيك دون شروط قد انتهت، ويجب أن تكون هناك نتائج ملموسة للأموال”.

ولكن إذا أخذنا العبرة من تاريخ العلاقات بين الدول المانحة والزعماء الأفارقة الفاسدين، فإنه يمكن القول إن إدارة الرئيس محمود لن تعاقب على ما فعلت. وهذا ما يفسر عدم مبالاة الحكومة بما ينتج عن سلوكها.

وعلى الرغم من ذلك، ينبغي أن لا تشعر أبرار بأي ندم إذا قررت الدول المانحة مواصلة تعاملها مع الحكومة في مقديشو مما سيؤكد مرة أخرى كيف يعمل المجتمع الدولي يدا بيد مع القادة الأفارقة الفاسدين في ترسيخ “نظرية الحصان والعصفور”. ولا عجب عما يقال بأن الاتجار بالفقر أصبح بضاعة رائجة.

فيلا الرئيس “زوما”

وفي مكان آخر من القارة، فإن ثوليسيلي ماندوسيلا، وهي محامية متخصصة بحقوق الإنسان، وخبيرة في شؤون المساواة، وحارسة المال العام في جنوب أفريقيا، تواجه مقاومة شرسة من قبل وزراء مقربين من الرئيس جيكوب زوما لعدم نشر النتائج التي توصلت إليها في التحقيق الذي أجرته في عملية ترميم المنزل الذي يرغب الرئيس العيش فيه بعد تقاعده وقد وصلت كلفته إلى حوالي 30 مليون دولار حسب التقارير الإخبارية. ولكن ماندوسيلا، والتي كانت ضمن الفريق الحادي عشر للحقوقيين الذين شاركوا في صياغة الدستور النهائي لجنوب أفريقيا في 5-1994، تصر على أنها ستمضي قدما لنشر التقرير مهما حدث.

ويذكر أن المنزل الفخم والمعروف بفيلا زوما، يحتوي على غرف تحت الأرض ومرافق طبية وملاعب لكرة القدم ومسرح ومهبط للطائرات، والمفارقة الكبرى هي أن المنزل يقع في حي فقير، ولكن الرئيس زوما مثله مثل الرئيس محمود وجد الجرأة ليعبر وبكل حماس عن عدم قدرته على النوم بأمان، لمعرفته أن هناك أناسا ما زالوا يعيشون في أكواخ في وطنه الغني بالثروات .

المرأة الأفريقية

الآن يمكننا أن نفهم عندما تعرب السيدة أبرار عن أسفها عما كان يمكن لها أن تنجز إذا سمح لها الاستفادة من الزخم الذي بدأته في كسب ثقة المؤسسات المالية الدولية قائلة: “يمكنني أن أتصور ما كان يمكن أن يتحقق لو حصلت على دعمكم لأداء واجباتي بموضوعية. فخامة الرئيس، لقد أصبت بخيبة أمل لأنني لم أجد دعمكم، ولكن الخيبة الأكبر هي التي أصابت الشعب الصومالي الذي كان يأمل في أن يستفيد من هذه الجهود”.

لقد مر على المرأة الأفريقية ردح من الزمن وهي تعمل دون انقطاع، تحمل الأثقال على ظهرها والأطفال في حضنها وبطنها، بينما في نفس الوقت كانت تحرث الأرض، ولكن اليوم وبينما حققت قدراً من التعليم والنضج السياسي فإنها أخذت على عاتقها عبئا آخر وهو تطهير القارة من الفساد المالي الذي يقتات عليه رجال السياسة.

نقلا عن مجلة  العرب 

زر الذهاب إلى الأعلى