الخطب المنبرية في مساجد مقديشو ومكامن الخلل

لم يكن المسجد الصغير الهادئ في حاراتنا والذي يرتاده لاداء الفرائض فيه كثير من أبناء الحي ذوو لاتجاهات المعتدلة الذين يفضلون أماكن العبادة الهادئة ، لم يكن هذا المسجد يوما من الأيام مكانا للفوضى والشغب، كما لم يعرف عن ائمته نوعا من أنواع التطرف واثارة الخلافات الفقهية والمذهبية التي تشتهر بها مساجد مقديشو الكثيرة، رغم رداءة الخطب المنبرية وضعف أداء الخطباء في مسجدنا هذا وهو ما تشاطره فيه كثير من المساجد في بلادنا، الا  أن الخطب كانت قصيرة نسبيا يستمتع بها المرؤ وإن لم يعرف معناها وموضوعها،لان الفرد العادي لايهمه موضوع الخطبية ومحاورها لطالما أنه لا يفهم لغة الخطبة”العربية”بقدر ما يهمه أداء فريضة الجمعة مع الجماعة وفي مسجد الحارة.

وقد كنت ألاحظ منذ فترة  أن الخطيب الشاب في مسجدنا الذي لا علم عنده باللغة العربية وقواعدها،ناهيك عن الشريعة الاسلامية ومبادئها يعتمد كليا علي الخطب المنبرية المسجلة وربما المدونة للشيخ عبد الحميد كشك يرحمه الله وهي نوعا ما طويلة وتنتمي الي زمان ومكان مختلفين كما تعالج قضايا مختلفة للقضايا الراهنة، لاجرم أن هذا الاعتماد مرده بعد ضعف اللغة يعود إلي التأثر بالشيخ ورغبة الاستفادة من تراثه وما أكثره، وخاصة من خطبه المنبرية، ولامعيب في ذلك عند فتى في عمر خطيبنا،فالمهم انه كان يلقي علينا الخطبة ويؤمنا في الصلاة،لم اراه في الجمعة الماضية والتي قبلها عله يكون مسافرا او  استبدلته إدارة الجامع لا ادري الحقيقة ولاتهمني كثيرا.

العشوائية هي القاسم المشترك

صباح يوم الجمعة الماضي كالمعتاد لم نكن مبكرين أنا واولادي إلي المسجد القريب لبيتنا، الا أننا وصلنا في وقت مناسب بحيث لم يكن المسجد مزدحما بدليل أننا حصلنا مكانا في الصف الأول، وبعد قليل دخل خطيب جديد وقدكنت أعرف الرجل منذ زمن بعيد وكان من طلاب العلم النابهين، وفعلا سررت باعتلائه على المنبر واستبشرت به ايما استبشار،ولكن بعد الافتتاح الطويل بدأت اشك في قدرة الرجل على الطرح ولم يعجبني أسلوبه الدرامي المختلط والهجين الذي تتخلله التخريجات الحديثية على طريقة الخلجيين، والتفريعات المملة والشروح الجانبية،رغم أنه كان يخطب من اوراق الا أنه لم يكن يلتزم بها ولم يكن منظما كما توقعته في بادئ االأمر وخاب ظني فيه، وبينما انا في شرود ذهني عميق نبهني ابني الصغير ذي الخمسة اعوام قائلا لي”يابابا خلاص نروح للبيت”طبعا الولد الصغير كان على حق فهو كان يشعر  بالبول والنوم وطالت الخطبة على غير المعتاد كما أخبرني لاحقا، ونظرت الي وجوه جموع المصلين فاذا التململ والاحتقان والامتعاض الشديد بادية منها، وقد ذكرني ذلك الإمام الذي كان يصلي بنا التراويح في “جامع الإمام عبدالله بن المبارك”(الجميح) في مدينة جده وكان يريح المصلين في التراويح بصوته الشجي العذب، ويقتصد في القراءة الا أنه كان يطول عليهم القنوت والدعاء.

عمليات حسابية  معقدة داخل الخطبة

وقبل نهاية الخطبة الأولي كان خطيبنا يبدو وكأنه استاذ رياضيات جديد يسأل الحاضرين عن العدد الاجمالي للاستغفار اذا استغفر الإنسان في اليوم مائة مرة وكم يصير  حاصل الجمع في الشهر ثم في السنة؟ فنظرت الي جلسائي في الصف فإذا بعض الشباب يحاولون الحصول على الإجابة وهم يستعملون حواسبهم الذكية وهواتفهم النقالة، فتسألت بيني وبين نفسي ماهذه العشوائية؟ ثم أنه اين ادآب الجمعة من الانصات والسكوت واستماع الخطبة بخشوع وبتدبروامعان؟ لا بأس فلتكن من الشباب الذين لايعرفون تلك الآداب ولا أحكام الجمعة،  ماذا عن الخطيب المتمرس والدارس للشريعة الاسلامية في احدى أرقي الجامعات في البلاد؟! إنها أزمة الخطاب الديني في بلادنا….

اين الخلل؟

ومن الملاحظ وجود خلل ما ليس عند هذا الخطيب فقط، ولكن عند كل الإئمة والخطباء، ومن حقنا أن نتساءل اين يكمن الخلل؟ الخلل في رأيي الشخصي يكمن في:

1- غياب الارشاد والتوجيه العام،فالخطباء ممهما بلغوا من العلم والمعرفة يحتاجون إلي توجيه وارشاد من قبل المختصين وأرباب الشأن، ومن واجبات وزارة الأوقاف والشؤون الدينية الإ شراف على المساجد ودور العبادة وتوجيه الأئمة والخطباء وتدريبهم ورفع كفائتهم المهنية،لكن الوزارة مشغولة بملفات أخرى غير الارشاد والتوجيه،ربما بأمور السياسة التي لاتعنيها لا من قريب ولا من بعيد،وربما لاشيء،لأنها لاتدري ماذايجري في المساجد، وقدلايهمها ذلك طالما ان معالي الوزير في مأمن عن الاستجواب أو عن سحب الثقة أو ماشابه ذلك.

2-عدم الرقابة،لايوجد هناك رقابة على المساجد، فكثير من الائمة وحتي المثقفيين منهم ينفرون  من سماع هذه الكلمة ويعادونها لأسباب يتفّهما الذين عاشوا فترة الحكم العسكري وعاصروا مضايقات جهاز المخابرات العتيد، فأنا ذاتي لا أقصد المراقبة بهذا المعنى، وانما المراقبة الشرعية المسؤولة المنبثقة من العمل المؤسسي للوزارة، فالآن هناك أعدد غفيرة من الأئمة يعتلون المنابر دون علم الوزارة ولا رقابتها،يحرضون الناس على الحكومة والشرع والقانون،بل ويسبحون ضد التيار، يبثون أفكارا تخالف معتقدات الأمة وثوابتها، أخبرني من أثق به من اصدقائي أنه صلي الجمعة في أحد المساجد في مقديشو فإذا الامام في نهاية الخطبة يدعوا لما أسماه”بامام المسلمين ودولة الخلافة”فاين وزارة الاوقاف والشؤون الدينية من هذه المهزلة التي تحدث في وضح النهار في جوامع مقديشو؟! فالجواب عند معالي الوزير ربما يكون ب “لاادري” فلماذا؟ لست ادري!

3- هامشية الخطابة،فالخطابة والإمامة هنا ليست عملا يمتهنه القائم بها ويتكسب من خلالها كما هو الحال في جميع الدول الاسلامية،بمعنى أن لخطيب والإمام ليسا موظفين لدى وزارة الاوقاف والشؤون الدينية، ولا يوجد جهة رسمية أو غير رسمية تدعمهم، لذا فالخطيب وقل مثله الإمام لاتربطه علاقة بأي جهة من الجهات اللهم إلا الجهة التي انتدبته الي هذا العمل التطوعي، قدتكون حركة إسلامية،أو مجلس ادارة المسجد أو غير ذلك،  فالخطباء –والحالة هذه- لايحاسبهم أحد علي ما يقومون به من أعمال، فالخطيب لا يهمه إلا جمع المادة التي يلقيها عل مسامع المصليين، فمن اين يحصل على  المعلومات؟ طبعا هناك عدة مصادر يستقي منها الخطيب مادته نذكر منها على سبيل المثال كتب الخطب المنبرية القديمة منها والحديثة،المواقع الاسلامية المنتشرة علي شبكة الانترنت دون  التمحيص أوالنظر الي توجهاتها أو انتمائها الفكرية والمذهبية.

4- قلة الإرتباط بلغة الخطابة، قليلون هم من يعرفون اللغة العربية، فبعض المصلين كما أسلفنا لاتهمهم الخطبة مادام هو لايفهمها، وهذا ممايجعل الإمام أو الخطيب يتساهل في إعداد الخطبة وأسلوب الإلقاء، وغيرها مما تستلزم الخطبة.

الحلول المقترحة

هناك عدة حلول يمكن طرحها في هذا المقام بغرض معالجة هذه الظاهرة،من هذه الحلول:

1- أن تتولي الوزراة مسؤلية إعداد الخطب المنبرية وتوزيعها على المساجد ومن ثم تقديم خطب موحدة في جميع المساجد تعالج قضية مهمة من القضايا الراهنة والتي تمس بحياة الموطن وهمومه،ويمكن أن تسند هذه المسؤولية لهئية العلماء ثم تشرف الوزراة، فهذا الأمر مسلم لا مطعن فيه.

2-إعداد الخطباء والائمة إعدادا جيدا عن طريق معاهد شرعية تنشؤها الوزارة، ويمكن أن تتعاون في هذا المجال احدي الدول الاسلامية وتطلب منهم تدريب الدعاة وأ ئمة المساجد والخطباء، ولا أظن أن الدول الإسلامية والمراكز العلمية تمانع عن تدريب الأئمة والخطباء لبلادنا.

3-تنظيم دورات تدريبية للائمة والخطباء، وعقد ورش عمل يشاركها العلماء والدعاة الى الله، وعلى العلماء أن يؤدو دورهم المنوط في تبليغ الدعوة وتوجيه الأمة، الخطابة جزؤ من مسؤلياتهم،فهم كما يبدو مشغولون ومنهمكون في السياسة،لدرجة أنك اذا لاحظت وامعنت النظر في تصرفاتهم تجد انهم منغمسون في السياسة أكثر من الساسة.

4- وضع شروط ومواصفات لمن يتولي الخطابة في المساجد،ويمكن أن يجري امتحان الإمامة والخطابة في كل سنة مرة أومرتين حسب الظروف والإمكانات،وتوظيف ائمة المساجد والخطباءالفائزين في هذا الإمتحان،وهذه مسؤلية كبيرة لا يمكن التفريط فيها أو اهمالها أو التهاون بشأنها،وخاصة في هذه الزمن الذي  تكثر فيه الفتن والقلاقل،فحماية عقيدة الأمة وثوابتها الدينية والتاريخية ونسجها الإجتماعي مسؤلية دينية قبل أن تكون وطنية.

وأخيرا اذا لم تتدارك الجهات المسؤلية عن هذه الظاهرة  بالمعالجة السريعة، فان الوضع سيتردى أكثر فأكثر،وأن انعكاساتها وتداعياتها عليى المجتمع الصومالي في مستقبل الأيام تكون بالغة الأثر، وعليه يتحتم على وزارة الأوقاف  أن تتحمل مسؤليتها تجاه هذا الموضوع.

عبد النور معلم محمد

كاتب وباحث بمركز مقديشو للبحوث والدراسات
زر الذهاب إلى الأعلى