مؤسسات الدولة بحاجة الي دماء جديدة

في العقدين الماضيين، كان رجال القبائل زعماء البلاد. يتولون إدارة البلاد من الهرم الي القاع، وكانت الحكومات الإنتقالية المتعاقبة في البلاد، مجرد صورة على مكاتب هؤلاء الزعماء. قد آثرت عدم المواجهة والتعامل مع هذه المجموعات ومهادنتهم درءا للمفاسد كمايقول البعض. لكن صارت النتيجة عكسية، بقيت المشكلة وإستفحلت ولم تجلب المصالح المرجوة . 

اتخذ الرئيس السابق شريف في نهاية حكمه، إجراءات جريئة. عزل زعماء الحرب والمقربين منهم المتنفذين في المواقع الحساسة. هذه الخطوة أثبت حقتقين؛ الأولى، أن عزل رجال الدولة  العميقة ممكن، و الثانية، أن ضخ الدماء المثقفة في شرايين الدلة قد يساهم في التغيير والإنجاز.

نتيجة لهذه الخطوة، طرأ تغيير ملموس على المواقع الحكومية التى لامستها يد التغيير كعمدة العاصمة  مقديشو. شهدت المدينة تحسنا ملحوظا اثر تعيين المحافظ الحالي، السيد ترسن الذي أثبت للرأى العام أنه شخص جدير بالعمل معه وصادق فيما يقوله. حاول ويحاول حتى الآن في تغيير صورة العاصمة وسمعتها السيئة. صحيح، ما تم إنجازه الي اليوم لا يرقى الي المستوى المطلوب الا أنه بداية طيبة يمكن البناء عليها ويستأنف منها من يخلفه في المنصب.

فهناك عقبات كثيرة واجهت هذا المحافظ، وتواجه كل من يريد العمل والإنجاز داخل العاصمة مقديشو، ومن أهم هذه العقبات وأسهلها حلا، هي مشكلة رؤساء القطاعات التى تتكون منها العاصمة مقديشو.

تتولى إدارة نواحي العاصمة مقديشو الستة عشرة، شخصيات غير كفؤة وغير جذيرة للحكم. تنعدم فيهم المعرفة والإخلاص. لم يرث الشعب منهم منذ ما يقارب عشر سنوات او أكثرالا الدمار والخراب. فهؤلاء الشخصيات تعود جذورهم الي عصر الأزمة ، عصر زعماء الحرب، لا يعرفون غير الدروس التي تعلموها من أسيادهم، لم تبلغهم رسالة الدولة، ولم يعترفوا أن البلد قد تغيّر ويشق طريقه نحو الإزدهار. لا يوجد في مناطقهم مظاهر الدوله، ولا تحكمهم سيادة النظام الجديد. فالأجدر تغيير هؤلاء المسؤولين. فإنهم وإن حسنت نواياهم لا يقدرون العمل والإنجاز لأنهم ببساطة، لم تتوفر لديهم شروط القيادة.

في هذه المرحلة، يعتبر كثيرون أنها من أنسب المراحل في إحداث تغيير فعلي في نظام الحكم في البلاد. ويبدأ هذا التغيير في إقالة كل من لا يتمتع بقدرة عقلية وكفاءة علمية تتماشي مع رغبات وطموحات الشعب الذي يتطلع الي نهاية سريعة لهذه للأزمة المزمنة. ينبغي عزل جميع مسؤولي النواحي في العاصمة الآن وقبل الغد، وتعين مواقعهم شيخصيات مثقفة قادرة على الإنجاز، ولا بأس إن كان المعينين من نفس قبيلة المقيل مراعاة للمحاصصة القبلية، والا ستنتهي فترة ولاية الرئيس محمود شيخ، ولم ينجز شيئا يذكر، ومن ثم يبدأ في نهاية فترة حكمه يبكي على ما فات، ولات حين مناص، كما فعل الرئيس السابق شيخ شريف.

وهذا الأمر ينطبق أيضا على  مجالس سائر محافظات البلاد التى تقع تحت سيطرة الحكومة وعلى المسؤولين المقصرين في أداء واجباتهم، أو الذين تعودّوا على إثارة الغبار وإحداث الجعجة من أجل إثبات الوجود أو للإستهلاك الإعلامي- وكذلك النواب الغائبين عن جلسات البرلمان بدون مبرر معقول- فهولاء دائما تجدهم في كل المناسبات، تجدهم في المطار عندما يغادر الرئيس او رئيس الوزراء او رئيس البرلمان أو يعود احد منهم الي البلاد، تجدهم في حفلات التخرج وفي المؤتمرات الصحفية، وحتى في مناسات عرض مسلحيين قيل انهم من حركة الشباب للصحافة.

 لماذا يشارك القائد العام لشرطة البلاد في مثل هذه المناسبات، أليس له عمل أهم من ذلك ،كالإتصال لنظرائه في العالم، ومراسلتهم وطلب يد العون منهم أوالتخطيط للمستقبل أو التفكير لإيجاد حلول للمشاكل المراكمتة في قطاع الشرطة؟ أم انه لايعرف ماهي واجباته كما يقول بعض المراقبين لأداء الحكومة الجديدة.

يوجد مثل هؤلاء المسؤولين الذين تعودّوا تضيليل الراى العام في جميع مرافق الدولة. يتحدثون أمام وسائل الإعلام أكثر من اللازم عن إنجازات وهمية، يتحدثون عن الإعتراف، ومشاركتهم في مؤتمرات دولية، كمؤتمر اقليمي لإختيار أجمل وأنظف مدينة في أفريقيا أو في الدول العربية! فما مغزى مشاركة هذا الوزير في مثل هذه المؤتمرات …! وآخر يعدّد إنجازاته الكثيرة، ويذكر من ضمنها مشاركته في مؤتمر لتحديد النسل في جنيف أو مؤتمر لتطوير كابلات الإنترنت في البحر!. اليس هناك أعمال كثيرة تنتظر هؤلاء المسؤولين، والشعب الصومالي بأمس الحاجة اليها ؟ ولا ينبغي بأي حال من الاحوال الإشتغال بأمور تافهة على حساب الوجبات المهمة التي نستطيع من خلالها أن نقيّم  المسؤول ونقول له إن أحسن أحسنت وإن أساء فشلت.

يسافر رئيس محكمة القوات المسلحة الي منطقة فلانة، ليفتتح فيها فرعا جديدا للمحكمة ويبقى فهناك ساعات يفض نزاعات، ويقضي أحكاما، ويسافر نائبه الي بلدوين، فتقف أمامه جموع من المتهمين فيحكم هذا بالإعدام وهذا بالسجن وآخر بالبراءة، ما هذا المهزلة ياجماعة ؟ فتلك ترّهات، وذر الرماد على العيون، ولا أساس لها في النظام المؤسساتي والعمل المهني ، وإن ساهمت في كبح جماح قوات الحكومة.

أين وزير العدل الذي تقع عليه مسؤولية إنشاء ووضع القوانين التي تنظم مثل هذه الأعمال المهمة في إرساء قواعد الحكم الرشيد؟ يبدوا أنه أهمل هذه المسؤولية وغيرها. تقلد وزير العدل الحالي- الذي أكن له وللفريق الذي يحكم البلاد حاليا، كل الإحترام والتقدير، تقلد هذا المنصب مرتين، فماهي الإنجارات التي حققها خلال تلك الفترتين؟

في الحقيقة يخيب آمالي وآمال كثير ممن تعلموا بيدهم  في داخل  البلاد وخارجه، وبدأنا نتسائل ماذا حل بهم؟ ام أننا نستعجل ولكنهم قادمون ولا يرضون غير الإنتصار الساحق، بطيئ ولكن اكيد المفعول.

كان من أهم ما كنا نتظر من وزير العدل، إرساء قواعد العدالة في البلاد من خلال سن القوانين ووضع الآليات المتعلقة بها وإعادة بناء وهيكلة نظام القضاء في البلاد من المحكمة الدستورية الي محكمة الديرة، لتحول هذه القوانين أن يكون رئيس محكمة القوات المسلحة قضيا في كل محافظات الجنوبية في البلاد. فهل عجزت الصوماليات أن يلدن قضاة تقوم بهذه المسؤوليات؟

في الجامعات السودانية وحدها، يتخرج في كل عام عشرات من الطلاب والطالبات من شتى القبائل الصومالية يحملون أعلى الدرجات والعلامات، متخصصين في شتى المجلات وخاصة الشريعة والقانون. لماذا لا نشغل هذه الأيادي الماهرة، واذا صار المبرر غياب الميزانية، أعرف أن كثيرا من هؤلاء الخريجين مستعدون للعمل بدون مقابل – وقد تعلموا هذه التضحية في السودان – حتى يستتب الأمر وتعود المياه الي مجاريها الطبيعية، لذلك ينبغي للحكومة أن تضح هذه الدماء الجديدة في شرايين الدولة وتضع مفاصل الدولة في قبضة تلك القوة الفتية المثقفة، وبعدها نرى كيف تتغير الأمور.

لا ينبغي في القرن الواحد والعشرين أن تحكمنا العقلية السابقة التى نتهمها بالوقوف وراء المشاكل التى نعاني منها وكما يقول الإداريون: لاتستطيع أن تحل المشاكل بنفس طريقة التفكير التي خلقتها، وبنفس الأشخاص التي تسببها. لكن أرى أن شيوخ القبائل والمسؤولين والساسة التي تحكم البلاد حاليا لا تريد أعطاء الفرصة للدم الجديد، بل يضع البعض منهم العراقل تلو العراقل أمام العقول المثقفة، كما قال لي أحد الشباب. ترشح هذا الشاب الذي هو من حملة  الشهادات العليا للبرلمان الحالي فرفضوه، ولمجلس الوزراء فرفضت الجهات المعنية ذلك، يريد حاليا أن يكون محافظا لإحدى المحافظات في البلاد فيضعون العقبات أمامه ومن أهم أسباب الرفض وعدم قبوله، أنه صغير، وعمر هذا الشاب فوق الثلاثين. فهذا رأي العقول المتحجرة التي توقف الزمن بها عام1991  م.

الشعب يريد تغييرا حقيقيا ولا يريد في هذا المرحلة مسكنات أو كلاما معسولا، يبتغي صاحبه من وراء ذلك إثبات الذات وإثارة الزوبعة ومن ثم الإختفاء فيها، لا نقبل ذلك من القريق الحاكم الذي كان ولا يزال مثلا أعلى في العمل والإنجاز لكثير من الشباب الصومالين الذين تعلموا بايديهم وباقي المجتمع الذي إستفاد من خدماتهم. ولا يرضى هؤلاء لهؤلاء  السير على درب السلف الطالح بل مستعدون لمحاسبهم وإنتقادهم بكل صراحة وشفافية.

 ليس معنى ذلك أننا نعيش في كوكب غير كوكب الصومال، نبحث المستحيل ويثير الزوابع،  بعيدا عن حقيقة الاوضاع المعقدة في البلاد.. لا، ونعرف الحقائق في الداخل، كالمشاكل الأمنية والتعقيدات القبلية والإجتماعية التي يمكن أن تعتري طريق الإصلاح الذي يدعوا اليه الحكام الجدد، لكن لنعترف أن كثيرا من هذه المبررات لم تعد موجودة، فقد زالت أو إختفت وتحتاج من يتخلص الباقي منها ويقتلع جدورها من الأساس.

إنتهى دور القبيلة المسلحة والزعيم الأوحد في البلاد وخاصة في المناطق الجنوبية كما إختفى  دور دول الجوار- فقد مات ملس، ويهتز عرش افورقي وأنتهى أيضا دور الدول المعنية بشؤون الصومال التي تعودّت في إثارة الفتن والنعرات القبلية من خلال تأييدهم لزعماء الحرب، أنتهى هذا العهد وبدون رجعة، في ظل وجود قطبين أساسين في البلاد؛ حركة الشباب التي لا تقبل غيرها وأميصوم التي لا تريد الإفراط في إنجازاتها.

 ومن يعتقد أن القبيلة المسلحة لا تنفك تهدم الأبنية فوق رؤوس اصحابها، وأن شوكة زعماء الحرب لا تزال نافذة، فهو واهم، يخاف من الأشباح، ولا يريد العمل، ويبرر إخفاقاته بظروف أمنية وتعقيدات إجتماعية غير موجودة، وهذا هو المسؤول الوزير الذي يقضي جل ووقته في مكتبه المتواضع تحت حراسة مشددة وإذا خرج يذهب لمشاركة مؤتمر صحفي ليس له فيه ناقة ولاجمل أو مصاحبة الرئيس الي أسفاره او لزيارة مبنى ترممه شركة تركية ويعقد مؤتمرا صحفيا مع أحد العاملين في الشركة.

 أما المسؤول الذي يريد أن يصنع المستقبل لهذه الأمة الغلبانة، لا ينشغل بهذه التوافه بل  تبدوا منه أمارات الإنجاز، فهو يريد أن ينجز على الأرض شيئا خلال مدة زمنية وجيزة وهذا ممكن، كما فعل البرفيسور الراحل عدو وزير التعليم العالي الأسبق ووزراء آخرون ولكن كثير من المسؤولين في الحكومة الحالية وإن لم يمضوا مدة طويلة في الحكم الإنهم  اثبتوا فشلهم ،  ولا تتعدى إنجازاتهم، مشاركة مؤتمرات دولية وإقليمية لا نعرف ريعها وعائدها للأمة، في حين بقيت الملفات الملحة على الرفوف، ولم تجد طريقها الي التنفيذ.

 

عبد الرحمن عبدي

كاتب وصحفي صومالي
زر الذهاب إلى الأعلى