كسمايو…عروسة المحيط

للمدن كما البشر لهم تاريخ تنبض بالحياة ومفعمة بالحيوية والنشاط، وملئية في نفس الوقت الجمال الذي ينتصب شامخا في معمعة الدمار والدماء القانية، ووسط الصراعات وغبار الحروب وعويل المعاناة ورمادية الذكريات التي تنساب بين فروج الوطن علي شكل دموع الأسى والحرمان.
 
وللمدن أيضا سجلات تضئ الدروب كشموع النور تحفظ فصول التاريخ وحكايات الجغرافيا وأحداث الحضارات وآثارالعمران التي شهدتها، وكذالك تؤرشف غباء الإنسان وموجات الدمار والدموع والعنف وتقلبات السنين وجور الأولاد وجحود الأحفاد التي تعرضت لها، والإبتسامات الباردة والعيون الزائغة والبطون الضامرة بسب الصراعات وموجات العنف والتشريد، كما لا تخلو تخليد الضحكات المجلجلة واللحظات العامرة بالحب والحنان لسكانها.
 
وخاصة إذا كانت المدن تفوح منهم عبق الأصالة وروح التاريخ الزكية، وتضج بالجمال كوردة الربيع، يجملها رونق الجغرافيا وجمالية الطبيعة وطيب الشعوب، ويزينها رغد الحياة وبحبوحة العيش وزبرجد الحب وأجنحة السلام التي ترفرف فوق سمائها، مما يحتم علي البشر التعلق علي المدن وإطلاق العواصم ألقاب الحب والحياة كدليل قوى علي مدي حب الشعوب لتلك المدن ودعابتهن كطفل صغير تهدهده الأم لينام في حضنها الدافئ.
 
وأعتقد أن كسمايو رغم الحروب الكريهة التي جعلت المدينة ركاما وأشلاء متناثرة وغير وجهها الباسم، من المدن التي تحتل الصدارة في الجمهورية الصومالية جمالا وبهاء، حتي أُطلق عليها درة الجنوب ودبي شرق افريقيا وفيّنا الصومال ، لأنها تقبلك بحفاوة نادرة تترك في أركان القلوب وفي متاريسه بصمات حب لا يمحيه الجديدان ولا ينهيه القمران، بسبب موقع المدينة المتميز وبدائع آيات الجمال الذي يداعب طبيعتها الخلابة وأجوائها الرومانسية .
 
تقع كسمايو أو المدينة التي تتكأ علي عين الجوّ المفعم بالجمال والخضرة، والذي يجف حبر وصف جمالها في عروق القلم، علي بعد 500كم تقريبا جنوب مقديشو العاصمة، والمدينة ناعسة علي بساط الرمال الحريرية بمحاذات الساحل علي شكل هندسي بديع، وتشتهر بموقعها الجغرافي المتميز وتاريخها الحافل بالعظمة قبل أن تدخل الأحزان الصامته والويلات الصاخية والليالي الكريهة الموحشة علي جسدها.
 
إختلف الناس عن أصل إسمها ومدلولاته وفسر الجميع حسب أهوائهم، ولكن الأقرب إلي الحقيقة أن إسمها جاء من بئر تتدفق عنه الينابيع الباردة التي تحمل مياها عذبا للشعب وبدأت الحياة من حوله، ومن هنا أطلق المدينة علي إسمه تيمنا.
 
تلاقحت الحضارة  علي أعتاب كسمايو واجتمعت الأفراد والجموع علي بساطها، وتصاهرت مختلف القبائل والأفخاذ الصومالية وغيرهم في كسمايو بسبب موقعها المتميز وتربتها الخصبة، مما جعل شعبها خليطا ولوحة رائعة جمعت جمالية الوحدة وفسيفساء الشعب وتنوع الإنتماء والخلفيات، وهكذا أصبحت المدينة بقعة مؤثرة في الصومال ومحيطها الخارجي.
 
تاريخيا أخذت المدينة طابع الشهرة بعد إنشار المماليك العربية علي الساحل الشرقي للقارة الإفريقية، واصبحت همزة الوصل للتجارة القُطرية والحكم الحضارمي والعماني علي شرق افريقيا، حيث باتت مرفأ مهما للملاحة البحرية الذي يربط الساحل الافريقي علي الشرق الأقصي وشبة الجزيرة الهندية والصين، كما كان المرفأ مهما جدا للبضائع المتنقلة علي طول الساحل الشرقي للقارة وإلي الأعماق البعيدة عن المحيطات هناك في أدغال افريقيا وأحراشها، وبهذا كانت نقطة مهمة تربط أجزاء شرق افريقيا في العمق الأفريقي والبلاد الآسيوية.
 
تشتهر المدينة بكونها المدينة الأهم في الجنوب الصومالي بعد مقديشو، وتتمتع بثروات زراعية هائلة وموارد بشرية وحيوانية وسمكية تجعل المدينة غنية بمواردها ومقدراتها وقبلة لمنشدي الحياة، كما تشتهر المدينة أنها مصنع النجوم للساحرة المستديرة والمستطيل الأخضر، حيث بزغ نجم أفضل من داعب الكورة بأقدام سمراء صومالية، ويكفي أنها القابلة الرسيمة لعمالقة الكورة في الصومال، وأن قرابة 50% من بطولة الدوري الصومالي للأقاليم ذهب إلي خزينة الأفيال.
 
كانت كسمايو قبل إنهيار الدولة الصومالية العاصمة الثالثة للبلاد، وكانت تتمتع ببنية تحتية مميزة مقارنة مع غيرها من المدن الصومالية، أمثال المصانع سواء كانت عسكرية أو المدنية والمرافق الحيوية ،ومن أهم مصانع المدنية في تلك الحقبة: المصنع الرئيس للسكر الذي يقع في قرية مريري التي تقع علي مشارف المدينة،  ومصنع دباغة الجلود، وبقربه يبدو المصنع الكبير للحوم مبنا فاخرا أشد واصلب من شقيقه، كما كانت المدينة تتمتع بمصنع تعليب لحوم الأسماك، ورغم أن التطور لم يكن في أوج عزه في عهد الحكومة العسكرية بقيادة الرئيس الراحل محمد سياد بري ـ رحمه اللة ـ إلا ان المدينة لم تفقد بريقها وحيويتها التجارة وريادتها التاريخية.
 
يعتبر كسمايو مدينة إسراتيجية في الأمن القومي الصومالي حيث تتحكم الحدود الجنوبية للوطن، كما يعتبر مدينة مهمة نظرا لمكانتها ومرافقها الحيوية الكثيرة مثل المطار الذي يعتبر من أكبر المطارات في الصومال وفي المنطقة، رغم الإهمال الذي طال جميع أقسامه في العقدين العجاف التي مرت بها الأمة الصومالية  تلك السنوات الضائعات من عمر المدينة، والميناء الرئيس للجنوب بعد ميناء مقديشو.
 
هذه الأشياء وغيرها وتفاعل التاريخ والجغرافيا، والتمازج المتزن بين المرح والحبور وبين الجمال الأنيق والذكريات الساطعة المشوبة بلحظات تراجيدية غامضة، جعلت كسمايو مدينة ليست ككل المدن، وليست مجرد أحياء وأزقات وشوارع وبيوت عامرة بالبهجة وتغمرها السعادة، وأخري خاوية يسكنها الحزن ويخيمها الكآبة ويغمرها الهجر والأشباح الليلية المخيفة، بل هي عنوان الأناقة للمدن الصومالية وسرة عواصم البلد، حيث الشواطئ النظيفة والتلال ذات الأشجار الوارفة التي سوسنها يصافح وردها، والروابي المكسوة بالخضرة، والرمال الحريرية، والنسمات الهوائية المبللة برذاذ المطر وألق الطبيعة، وعناقيد العنب وأصابع الموز والغابات الإسوائية المبدعة تحت وقع الأنهار المنسابة نحو المحيط ليتلقي العذب بالمالح بهيئة بانورامية مبهرة هناك في غوب وين GOBWEYN علي بعد 15 كم شمال كسمايو.
 
عظمة المدينة وجمالها الطافح لا يتوقف هناك، بل المظاهر الفاتنة والمباني العتيقة علي الطراز العربي والإيطالي الجميل الذي تتلفع بالبهجة، والفيللات الغارقة علي الجنان، والأشجار الباسقات التي تتعالي كأغصان السنديان علي ضفاف العظمة في منطقة GOSHA وdhasheega waamo وفي ضيف الحيوانات المختلفة أمثال القرود التي تقفز برشاقة من غضن إلي غضن، والفهود والنمور والأفيال العملاقة، ويبدو زئير الأسد في وسط الغابات كرعد يجلجل الأفق، في حين تعيش البط والغرانيق والكناري علي أعشاب الغدير وهي تزهو وتختال، وزرائب الطيور المهاجرة إليها ترسم لوحة زجاجية فائقة الجمال، ويكتمل عقد البهاء بالسمراوات الحسان اللآيئ يطلن وجههن الجميل في الشرفات البارزة للبيوت العتيقة، والحس الشاعري للشعب وللمدينة تجعل كسمايو أيقونة ساطعة وغابة رؤوم تشحذ الخيال وتمنحك شعورا يتخطى كل المحن والمآسي إلي العظمة الأفريقية والمجد الخلود للأمة الصومالية والليالي القرمزية علي أهداب القمر أو علي أكتاف الشواطئ.
 
تستمد المدينة الجمال الفاتن بموقعها المتميز ومناخها المعتدل، حيث لا تلفحك نار الصيف ولا تجمدك زمهرير الشتاء بل طقسها مائل إلي الوسطية المستوية في طول السنة بسبب الرياح المحملة للتيارات الهوائية الباردة من المحيط، إضافة إلي موقعها القريب من خط الإستواء، وتلبس المدينة في الربيع حللها الخضراء وهوائها البليل، وترتفع أشجارها نحو السماء، فيملأ الحب نسائمه علي الطبيعة الجامدة، وهنا ومع وجود العنصر الصومالي الذي ينبض بالعزة والكرامة يتصاعد الإعجاب والتعلق الواضح علي الإيقاعات الرائعة المصاحبة علي روعة الطبيعة كمنحنى تصاعدي سريع، وفي الخريف يكسوها جمال الطبيعة بملابسها الأنيقة، فتتحول إلي تحفة معمارية رائعة يهذي القلب بمفاتنها، وتسحر الوجدان وتكتب قصائد الحب والجمال علي أوتار القلوب.
 
وللمدينة مزايا كثيرة وفضائل حميدة تجعل في مصاف المدن ذات الأهمية الإستراتيجية والتاريخية في القرن الإفريقي وفي شرق القارة، ولها خصائل قلما تشاركها مدينة أخري، فأبطالها أشاوس، ورجالها أشداء، ونسائها أنقياء أوفياء، وهوائها طلق ونسيمها عليل وشاطئها نظيفة وخيراتها طافحة ومائها عذب زلال وشعبها مضياف كريم، إن تحدثت عن كرمهم فهم حاتم أهل الجنوب، وإن تحدثت عن الأصالة فهم سليل العظماء، وإن تكلمت عن الشجاعة فهم من طينة الفرسان الشجعان، أحيائها راقية وأزقاتها دافئة، وشوارعها نظيفة وأشجارها باسقات طوال، وتربتها رمادية سوداء مشوبة بحمرة كالدماء القانية التي أريقت فداء للوطن ومهرا للحرية.
 
لم تزل كسمايو تسحر محبيها، وتنشر شذي الجمال وعبق الأصالة وجاذبية الطبيعة التي تأسر اللب وتبهر العين في قلب عشاقها، ولم يزل تملك عروسة الشرق الجغرافي لقارتنا الحبيبة رونق الجمال وتميز الموقع وحيوية المكان ونشاط السكان وزخم الإعلام، لذا لا أزال أتمسك بخيوط الأمل أن ألعب يوما أنا وأولادي مع أحفادي ونشكل فريقا صعب المراس هناك في الشرق البعيد كما لعبت الكرة علي ساحلها في طفولتي ،ونمرح فوق ربي الرمال الحريرية في جنوب القرن وفي درة الشرق وكوكب الصومال مع اجبابنا وممن فرقنا الزمن عنهم رغم أن حبهم سكن في حدقات عيوني وملؤ قلبي محبة الشجن الصافي.
 
نحبك يا مدينتنا الحميمة درة الجنوب ودبي شرق افريقيا وفيّينا الصومال.
المصدر- مدونة للأمة…. وللوطن

حسن محمود قرني

حسن محمود قُرنَي كاتب ومدون صومالي خريج جامعة أفريقيا العالمية كلية العلوم قسم جيولوجيا.
زر الذهاب إلى الأعلى