السلطان يوسف علي ومنطقة مجريتنيا … الحلم الذي كاد أن يتحقق (2-10)

الحالة السياسية والاجتماعية في مجيرتينا في نهاية القرن التاسع عشر الميلادي

 امتازت مناطق الصومال في نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين بغياب مراكز الحكم أو نظام حكم مركزي، وتشتت مناطقي، وصراعات قبلية في المناطق الداخلية، وكان وجود مراكز حكم غير مركزي ضعيف أبرز مظاهر الحالة الصومالية السياسية في ذلك الوقت، بيد أن هناك سلطتين صوماليتين  يمكن أن نصفها بنظام الحكم المركزي: سلطنة غليدي في منطقة أفغوي في الجنوب، وسلطنة مجرتينا في الشرق. لكن في الواقع كانتا إما سلطنة محدودة المناطق والنفوذ والتأثير كما هو الحال بالنسبة للأولى أو نظام حكم قبلي،  كما هو الأمر بالنسبة لسلطنة مجيرتينا.

كان واقع الحياة  السياسية و الاجتماعية في منطقة  مجيرتينيا شمال وشرق الصومال،  مثل باقي مناطق البدوية الرعوية في الصومال. كانت  تخضع لطبيعة الحياة البدوية، يعيش الناس فيها حياة الترحال والتنقل، ويسود النظام القبلي في حياتهم السياسية والاجتماعية ، وكان رؤساء القبائل يمارسون السلطة السياسية والعسكرية، وتتولى كل قبيلة  شؤونها بنفسها، ولم يكن هناك سلطة أو كيان سياسي جامعٌ لكل القبائل الصومالية أو نظام حكم مركزي، و يحتكمون لحل الخلافات بين أفراد القبيلة أو الخصومات والحروب بين القبائل إلى الأعراف والتقاليد القبلية أو ما يسمى بـحير صومالي”، القانون غير المكتوب المتعارف لدى القبائل الصومالية، واحيانا الى الشريعة الإسلامية

وتجدر الإشارة في هذا الصدد الى أنّ قبل دخول المستعمر الأوروبي في المناطق الشمالية  في الصومال، كانت تابعة للخلافة العثمانية عبر نائبها في اليمن، وفي عام ١٨٧٥ تنازل باب العالي مينائي  زيلع وبربرة لصالح المصريين بمباركة البريطانيين ورضاهم ولما تخلى المصريون  عن هذين الميناءين بالإضافة إلى منطقة هرر بضغط من بريطانيا، وقع البريطانيون معاهدة حماية مع زعماء القبائل في الساحل وفي الحواضر على وجه الخصوص. أما مناطق الشرق (مجيرتينا) باتت مستقلة أو كانت تبعيتها للخلافة العثمانية شكليا دون وجود سيادة عليها، ولم تشملها كذلك السيادة المصرية أولا والبريطانية لاحقا.

ومع دخول المستعمر الأوروبي تسارعت وتيرة عملية التحول في النظام الحكم السياسي والاجتماعي في شمال الصومال من هياكل حكم قبلي غير مركزي إلى نظام حكم مركزي يشبه إلى حد ما إلى نظام حكم الدولة الحديثة، وهناك عاملان  لعبا دورا أساسيا في عملية التحول في نظام الحكم السياسي في الصومال وهما: التأثير والجاذبية القوية التي مارستها شبه الجزيرة العربية  من  خلال الاتصالات المتزايدة ذات الطبيعة الدينية والتجارية، والتغلغل الاستعماري الأوروبي المتزايد، فضلا عن التأثير التي تمارسها القوى الإقليمية الأخرى الذين تتدخل في شؤون المنطقة من إثيوبيا إلى زنجبار إلى مصر الخديوية، أحيانا بشكل مباشر وأخرى غير مباشر. F.batteri p.68.

تعتبر الحالة المجيرتينة السياسية حالة فريدة وتمثل أفضل نموذج لتلك التحول  السياسي التدريجي التي شهدتها المناطق الشرقية الشمالية من نظام حكم قبلي إلى نظام حكم مركزي الذي خرجت فيما بعد من عباءته سلطنة هوبيو التي استطاعت بسط سلطتها على مناطق شاسعة تسكنها قبائل عدة، وخارج مناطق نفوذ سلطنة مجيرتيناوبعد اتفاقية التفاهم التجاري الأمني بين سلطنة مجرتنيا وبريطانيا الذي بموجبه تحمي سلطنة مجرتنيا السفن التجارية وطواقمها في السواحل المجيرتينة من القراصنة الصوماليين واغاثتهم حال تعرضهم للغرق أو العطل الفنية أثناء مرورهم المياه المحلية مقابل مبلغ مالي تدفعها بريطانيا للسلطان، اتفاقية الحماية التي أبرمتها سلطنة مجرتنيا وهوبيو مع إيطاليا لبستهما غطاء سياسي دولي وأصبحت سلطنتنا مجرتنيا وهوبيو سلطة معترفة دوليا.

 السياق التاريخي  والعوامل المؤثرة في شخصية السلطان يوسف علي 

عندما تقرأ سيرة السلطان يوسف علي  السياسية في سياقها التاريخي المحلي والإقليمي يأخذك إحساس بأنك أمام شخصية استثنائية وفريدة بين أقرانها  في الوسط الصومالي التقليدي في تلك الفترة، وترى في شخصيته ميزات قل ما تجده في الصوماليين المعاصرين لهأبرز ما تميَّز به السلطان يوسف على هو  المغامرة ،  وبعد النظر ، والجرأة،  والطموح والإرادة القوية، واستخدام المال والتحالفات والمصاهرات السياسية للوصول إلى غايته، وتتجسَّد فيه الشخصية البراغماتية المتقدمة على غيرها من الشخصيات في تلك الحقبة بمراحل.

يقول المستشرق والمستكشف الإيطالي robecchi brichetti  في كتابه il paese degli aromi: “السلطان يوسف علي رجل ذكي، وجريء. أسس مدينة ، وكيان سياسي في منطقة صحراوية مهجورة”. ويقول أيضايوسف على رجل طويل القامة ، نحيف وقوي، ماكر مخادع ، وجشعويقول في مكان آخر يوسف رجل ذو طبيعة مضطربة وكثيرة المبادرة  وعاش كتاجر بسيط، وأراد الخروج من الظل وخلق شبكة من المؤثرين حوله مما أكسبه المكانة الكبيرة التي يتمتع بها اليوم. انتهى. ص ٤٩٨

ولم يكن ليوسف خلفية علمية وثقافية ولم يُعرف عنه أنه درس أي من العلوم دينية كانت أو مدنية. تولدت تجربة يوسف عن الأزمات والتغيرات التي تعرضت لها البنيان الاجتماعية والسياسية للمجتمع المجيرتينة نتيجة التأثيرات الخارجية. وإن رحلاته التجارية في البحر الأحمر والمحيط الهندي واحتكاكه مع العرب والهنود والاوروبيين في المعاملات التجارية والدبلوماسية لها دور كبير وتأثير مباشر أو غير مباشر في تكوين شخصية يوسف على كينديد السياسية، ويمتاز يوسف بقدرته علي نسج تحالفات حسب التلاقي والتلاغي في الداخل والخارج، وكان واعيا حركة الأحداث من حوله والسباق المحمومة بين الدول العظمى في إيجاد موطئ قدم لهم في القارة السمراء ، وأصبح يدرك تماما ما يدور  في العالم من متغيرات جيو سياسية، وصراعات بين الأمم خاصة  في الجزيرة العربية والافريقية ودخول الاستعمار الأوروبي في الدول الإسلامية وتقسيمها، وكذلك علاقة المستعمر الأوروبي بسلاطين وأمراء المحليين وتأثُّرهم بمظهر الحياة السياسية والعسكرية الأوروبية واستعانتهم او عرض خدمتهم لتحقيق طموحاتهم. وفي الحقيقة هذه العلاقة كانت تدور حول  المصلحة الشخصية ليتمكنوا من حماية أنفسهم وحكمهم من التهديدات الداخلية والخارجية، وكذلك استفاد زعماء وأمراء العرب والافارقة من الاستعمار الأوروبي من خلال اتفاقيات الحماية  في كسب المال ، وتعزيز واحتفاظ سلطتهم وفك ارتباطهم بالخلافة العثمانية وطردهم من بلادهم في الوقت الذي كان فيه العالم الإسلامي ينتقل من عهدة الخلافة العثمانيةالي عصر الدول القومية والوطنية وتتجه نحو الانهيار والتفكك، واصفاء الشرعيةعلى ملكهم والنيل بالإعتراف الدولى وتحت سيادة الحامي، كامثال عبدالعزيز آل سعود في نجد (السعودية ) وشريف حسين في الحجاز وغيرهم من مشيخات الخليج كمايظهر في السجلات البريطانية حول تشكل الإمارات الخليجية ودور بريطانيا فيها، وحول طبيعة علاقتهم  بتاج البريطاني، هناك تشابه كبير بين هؤلاء وبين يوسف علي وان كان الفرق بينهم من ناحية البيئة والظروف والجغرافيا كبيرا جدا لكن هناك قواسم مشترك في الشخصية ويشتركون في السياق التاريخي والإقليمي والمؤثرات الخارجية،  وهذا لا شك أهم عامل دفع يوسف عليكينديدأن يُقبل على مغامراته السياسية ونزاعه مع سلطان عثمان محمود السلطان الشرعي في مجيرتينا على الملك، وذكاءه وشغفه في تحصيل المال والجاه والتصدر اجبرته أن يمشي علي أوتار ممدودة فوق رمال متحركة في جغرافيا ساخنة بالمعارك السياسية والعسكرية بين عددة أطراف، محاولا الجمع بين طموحه الشخصي وبين مصالح القوى الإقليمية،  ولذلك كسر حواجز الأعراف والتقاليد واقبل علي خطوة  جريئة بأقامة إمارة خاصة  علي ارض صحراوية مهجورة في منطقة معادية، وقد نجح  في ذلك  بسبب حنكته السياسية وعلاقاته الواسعة بالداخل والخارج وكان  واضحا تأثُّر يوسف السياسية والعسكرية بجيرانه العرب  وحاول تقليدهم، إذ كان هؤلاء  في الأصل رؤساء قبائل قبل أن يصبحوا أمراء وسلاطين لدولة حديثة وبمساعدة  خارجية خاصة من الحكومة الانجليزية وأن هذا التقليد شمل أيضا في هيئة اللباس والمسكن وبناء القصور والقلاع وان لقبسلطانبمفهومه السياسي ذاته أيضا تقليد لسلاطين العرب وأن استخدامه جاء في الصومال متأخرا ولم يكن معروفا لدى الصوماليين.


[1]

خالد إبراهيم

باحث في تاريخ الصومال
زر الذهاب إلى الأعلى