لقمة العيش – مظلوم (قصة قصيرة)

مظلوم (قصة قصيرة)

عند الفجر، قبيل شروق الشمس، نهض (مظلوم) من النوم مفزعا. نظر ساعته على درج صغير جنب السرير…الساعة السادسة صباحا. لم يصدق عيناه. فتح النافذة الشرقية لغرفتة المطلة على حدائق (كاوغدي) …

كان كل شيء على ما يرام .

الجو هادئ، والسماء ملبدة بغيوم المطر، وآثار أقدام الربيع في كل مكان،وحبات الندى تنمق الأزهار الحمراء، والأعشاب الخضراء في حديقة (حاج عدان)، وطيور الصباح فوق الأشجار، تشقشق فرحانة بالنور … ما أجمل الضياء! ما أجمل الصباح!

صلاة الصبح، جزء من القرآن، أذكار الصباح، استقبل فارح بيومه الجديد، وصباحه الجميل .

على ذلك التل، في أقصى جنوب شرق مدينة مقديشو، عاش (مظلوم) وترعرع فيه. ولد على مهد اليتم، وتربي في أحضان الفقر، وشبّ في منازل الفوضى. مات أبوه في زحمة الأحداث التي تعصف البلاد، وفقد أخوه الكبير وسط العواصف في بحر الروم على متن قارب الموت…نحو اوروبا بحثا عن حياة أفضل.

هناك، في أقصى حي (كاوغذي الشعبي)، كان(مظلوم) منذ عشر سنوات يغتدي والطير في وكناتها، يشق طريق النجاح نحو مستقبل باهر.

في الصباح، يجلس في قاعة الدراسة يتعلم، يجتهد، وعينيه على النهاية… الهدف الأسمى … أن يكون رجلا ناحجا .

وفي المساء، يشتغل في مقهى بسوق ((بوعلي)) يجني شلنات في إعالة أسرة والده المرحوم.

عند الساعة السابعة، غادر(مظلوم) من البيت وفي ذهنه ترن نصائح والدته:

” ياولدي إني أعلمك كلمات: لا تظلم أحدا، ولا تكن عونا لظالم؛ فأن الظلم مرتعه وخيم. وإن سابك أو ظلمك أحد فقل سلام … وأعلم أن الصبر مرّ مذاقه حلو عاقبته.

ياولدي شدّ حيلك، وخذ حذرك، الأسرة بانتظارك “.

كانت أم المظلوم (مانديق ) واقفة أمام منزلها الصفيح (عريش) الآيل بالسقوط وفي يدها كيس فيه ذرة… ترمي حبات الذرة الي عدة دجاجات وأفراخ تجري من كل اتجاه…تتنافس وتتعارك بالحبات…

هكذا كان دأب(مانديق) وديدنها منذ السنوات العشرة التي ظل (مظلوم) يتنقل بين صفوف مدرسة (طم ياسين عرتن)، تشاهد كل صباح فلذة كبدها نجل الأسرة، وغدها المشرق، يضع خطوات واثقة على سلم النجاح، ودرب المستقبل الجميل.

لكن هذا اليوم يحمل بالنسبة لأم (مظلوم) طعما خاصا لا يوصف، يتسلم ولدها أول راتب عمله من إحدى وزارات الحكومة الصومالية.

وصل (مظلوم) محطة الباصات في الساعة الثامنة صباحا، وقت الذروة، تتلاحق عربات الحمير والبغال، ويتزاحم (المظلومون) تجارا وطلابا ومتسولين في شارع (مدينة )… ولكل وجهة هو موليها: فريق نحو العاصمة، قلب المدينة سوق حمروين. وفريق الي الضاحية الجنوبية سوق عيلشا. وعدد قليل الي المكاتب الحكومية، ولكن يجمع كل هؤلاء همّ واحد، وشي واحد : الأمان، والعيش الكريم …

وسط هذا الزحام، رأى (مظلوم) (مظلوما آخر)، زميلا له في المدرسة ينتظر الباص في محطة (معمعانك) وهي عبارة عن مفترق طرق ضيق، تحوم حوله بعض الأشجار، وتحت ظلالها تبيع الباعة (المظلومون) الحلويات والمشروبات…

– صباح الخير يازميلي.

– صباح النور مظلوم . كيف الوالدة(مانديق) ؟

– بخير، والحمدلله على كل حال .

– حسنا، ماذا بعد التخرج ؟ هل حصلت عملا؟

– نعم، أعمل في وزارة التعليم

– جميل

– وانت؟

– لا، ولكن …

– نبرافر… نبرافر… نبرافر… (الي ميدان رقم4) 3000 شلن صومالي(للجالس). سولي(للواقف) 2000 شلن .قالها كمساري مقاطعا حديث الزميلين.

مرة واحدة، خشعت الأصوات، وبدأ الناس في المحطة يتبعون الداعي… يتسابقون نحو ميني باص صغير لا يتسع سوى 23 راكبا، لكن يستقله عادة ؟أكثر من 30 راكبا.

جلس الزميلان في المقعد الخلفي (raaxeeye) للباص. كانت النوافذ مغقلة، والطريق وعرا. مستنقعات مائية في وسط الشارع، وجنبات الأزقة كانت تعيق حركة السيارات والمارة على حد سواء.

لم تمر دقائق كثيرة حتى بدأت قطرات العرق تسيل من وجه مظلوم بغزارة،وحركات التنفس تضيق به شيئا فشيئا من وطأة الحر، وشدة والإزدحام.

وصل (مظلوم) مقر وزارة التعليم في حي رقم4، وهو عبارة عن غرف صغيرة ضمن مبنى ( هرغه وسامه) الذي يضم مقرات لعدة وزراء من الحكومة الصومالية.

جلس (مظلوم) على كرسي تحت شجرة في باحة المبنى ينتظر موعد دخول العمل، أسند خده على راحة كفه، وراح يغوص في أعماق دنيا الأحلام والآمال… يفكر عن مستقبل الأسرة، عن إخوانه الثلاثة: مهموم، مريضة، برئية.

بعد دقائق من التفكير، أخرج(مظلوم) من حقيبته مذكرته، رفيق درب النجاح، وراح يكتب فيها مختارات من أحلامه، وتفاصيل مصارف رابته الأول( 200دولار). وكان ضمن ماكتب في المذكرة؛ خطة تسديد الديون، شراء الحلويات، إقامة مائدة عشاء للأصدقاء والجيران.

بينما كان يغوص (مظلوم) في أعماق هذه الأحلام الجميلة،كانت والدته(مانديق) هي الأخرى تسابق الزمن، وتحبس الأنفاس تنتظر عودة ولدها، تنتظر عندما يجلس الي جانبها ويحكى لها عن قصة يومه، وتفاصيل العمل؛ الراتب، ساعات العمل، العلاوة، والإجازات..

فجأة، هز المكان إنفجار قوي، هجوم انتحاري. إنهار المبني، تناثرت الجثث هنا وهناك. وعلى صفير سيارة الإسعاف تجمع الناس في المكان ينقلون الأحياء والأموات، فوجدوا (مظلوم) بين القتلى والي جانبه مذكرته؛ صك البراءة، وشهادة أحلام المقتول.

زر الذهاب إلى الأعلى